فجر يوم جديد: القرار بيد الشريك الفرنسي!
أمر جائز ووارد بقوة أن يقرأ الناقد الحدث، سواء أكان فيلماً أو عرضاً مسرحياً، ثم يكتب عنه، متأثراً بخلفيته الثقافية أو مدعوماً بوعيه السياسي. لكن ما هو غير جائز، ولا يمكن القبول به على الإطلاق، أن يُغير الناقد ويُبدل وجهة نظر تبناها المبدع في ندوة يحضرها المئات، وربما تبثها عشرات المحطات الفضائية، والشبكات الإذاعية، فينقل وجهة النظر بعدما يوجهها الوجهة التي يريد، إما بتجميلها أو تشويهها، وفي الحالتين يتسبب في إصابة القارئ، أو المتابع للندوة، بشيء من البلبلة، والكثير من الدهشة والريبة.
هذا الأمر هو ما حدث بكل تأكيد مع الكثيرين ممن قرأوا، مثلي، ما كتبه الناقد الكبير سمير فريد عن تداعيات ما بعد عرض الفيلم المصري «بعد الموقعة» في المسابقة الرسمية للدورة الخامسة والستين لمهرجان «كان» السينمائي الدولي. أكد فريد بالحرف الواحد أن المؤتمر الصحافي، الذي استغرق ساعة كاملة، شهد سؤالاً للمخرج يسري نصرالله حول موقفه من عرض فيلم «بعد الموقعة» في إسرائيل، ورد نصر الله بأن توزيع الفيلم في أي دولة ليس من اختصاصه بل يدخل ضمن مسؤولية الشركة الفرنسية التي تملك حقوق التوزيع خارج العالم العربي. هكذا كتب فريد، لكن ناقداً آخر كتب في جريدة أخرى، وفي اليوم نفسه، يؤكد أن المخرج يسري نصر الله أجاب على السؤال قائلاً: {لن أسمح بعرض فيلمي في إسرائيل»! فأي الروايتين نصدق؟ وما الذي قاله نصر الله بالضبط لنفهم ما إذا كان يرفض بشكل قاطع عرض فيلم «بعد الموقعة» في إسرائيل أم أنه يترك القرار للشركة الفرنسية التي تملك حقوق التوزيع خارج العالم العربي؟ الرواية الأرجح والأكثر مصداقية تلك التي جاءت في تغطية الناقد الكبير سمير فريد، الذي تتمتع كتاباته ومتابعاته برصانة وجدية لا يتسرب إليهما الشك، خصوصاً أن ما قاله نصر الله يُذكرني بواقعة قديمة كنت شاهداً عليها عندما تناقلت الأخبار أن فيلماً للمخرج الكبير يوسف شاهين، أظنه «اليوم السادس»، اختير للمشاركة في مهرجان القدس العالمي للسينما عام 1986. آنذاك، ما كان مني سوى أن ذهبت إليه مدفوعاً بحماسة الشباب، وواجهته بالاتهام، وبغضب لم ينجح في إخفائه دفع في وجهي بـ «فاكس» يحمل كلمة واحدة بخط يده هي «NO»، يرد بها على الشركة الفرنسية التي تملك حقوق توزيع الفيلم خارج العالم العربي، وتسأله رأيه في عرض الفيلم في «مهرجان أورشليم». هو الموقف نفسه الذي يمكن أن يتعرض له المخرج يسري نصر الله في حال تفكير الشركة الفرنسية، التي تملك حقوق توزيع فيلم «بعد الموقعة» خارج العالم العربي، في عرضه في إسرائيل؛ لأن رفض المخرج يسري نصر الله غير مُلزم للشركة، ولا يُعتد به، وهي الحقيقة القانونية التي يُدركها نصر الله جيداً، ولهذا جاءت إجابته متسقة مع بنود العقد الذي حرره عندما أكد أن «الأمر خارج اختصاصه» بينما كان في مقدوره أن يستثمر الفرصة، ويتقمص شخصية «المناضل»، ويردد الكثير من المصطلحات «الثورية» والنظريات «الانتهازية»! هل يعني هذا أن نصر الله فرط أو تنازل أو هادن ليكسب تعاطف الدوائر الغربية أو جماعات الضغط اليهودية؟ بالطبع لا؛ فمن يعرف، عن قرب، المخرج، الذي عاش الحرب الأهلية اللبنانية في شبابه، وقدم الفيلم الملحمي «باب الشمس»، الذي تحول إلى «أيقونة» القضية الفلسطينية على شاشة السينما العربية، يُدرك أنه كان صادقاً تماماً عندما قال، في المؤتمر الصحافي نفسه، إنه ليس سعيداً بعرض الفيلم في إسرائيل ما دامت تنتهك حقوق الشعب الفلسطيني، وأعلن على الملأ أنه ليس ضد السلام بدليل علاقة الصداقة التي تجمعه وبعض المخرجين الإسرائيليين المدافعين عن حقوق الفلسطينيين. هذا هو يسري نصر الله، الذي يتبنى الرأي الذي يتسق مع قناعاته وأيديولوجياته، ويتخذ المواقف التي تنسجم مع قراراته، ولا يعرف «العنترية» أو البطولة الزائفة، التي أراد «البعض» أن يُلصقهما به بالإدعاء عليه، زوراًً وبهتاناً، بأنه قرر، بشكل قاطع، «ألا يسمح بعرض فيلمه في إسرائيل» فهو أول من يعلم أن القرار ليس بيده... وحتى إذا أراد منع عرضه فإنه لن يستطيع!