حاجتنا إلى فكر التنوير
عندما يشتد الظلام تشتد الحاجة إلى النور، إذ تشهد مجتمعاتنا اليوم صعود قوى تتبنى حلولاً ماضوية، ويسود وهمٌ كبيرٌ لدى الجماهير حين تراهن على تلك الحلول علاجاً لواقعها البائس، مجتمعاتنا في حاجة ماسة اليوم إلى فكر التنوير لعبور أوضاعها المتردية وحلول الماضي لن تجدي نفعاً. قبل قرن كانت النخب الثقافية والسياسية منشغلة بسؤال النهضة الكبير: لماذا تقدم الغرب وتأخرنا؟ واليوم نخبنا منشغلة بفتاوى رضاعة الكبير، وختان الإناث، وطروحات التطرف المذهبي وصراعات الهويات الضيقة! لماذا هذا التراجع الحضاري؟ ولماذا صعود الهويات الضيقة؟ أتصور أنه لغياب فكر التنوير.
دعتني "جمعية المنتدى" البحرينية للحديث حول "حركة التنوير ودور الشباب فيها"، وهي واحدة من جمعيات المجتمع المدني التي تملأ الفضاء البحريني نشاطاً ووعياً، فما هو فكر التنوير؟ التنوير هو تسليط نور العقل على كل الموروثات الفكرية المعوقة للتفكير الحر، أو هو ما عبر عنه الكاتب البحريني علي الديري في كلمته- نيابة عن وزيرة الثقافة البحرينية الشيخة مي آل خليفة- في احتفالية "التنوير إرث المستقبل" بالكويت ديسمبر 2008، فقال: "التنوير هو هندسة للخروج من قصور عقولنا وأرواحنا وأجسادنا، ذلك القصور الذي يوهمنا إياه ظلام الطوائف والمذاهب والمرجعيات الدينية والأيديولوجية، التنوير هو استرداد الإنسان لنوره الخاص الذي يضيء به حقائق الوجود". والتنوير عند أركون: "هو تحرير العقل من عطالته بما يشمل نقد العقل لنفسه". وتتعدد التعريفات ويجمعها معنى مشترك: وهو أن التنوير: الإقلاع عن تقديس السلف والانشغال بترديد أقواله وشغل المجتمع بخلافاته الماضوية، متى بدأ التنوير؟ يبدأ عصر التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر، وسمي بالأنوار تمييزاً له عن العصور المظلمة قبله. حدث التنوير حين قررت أوروبا الاستفاقة من سبات القرون الوسطى لتحرير عقلها من عطالته، فانطلق يكتشف ويخترع ويبدع ويصنع المعجزات العلمية والحضارية التي نقلت البشرية نقلة نوعية مختلفة عن الحضارات السابقة. هذا التنوير هو الذي جعل الحضارة المعاصرة حضارة استثنائية كما يقول المفكر السعودي المبدع إبراهيم البليهي، والذي يعد أفضل من شخّص الخصائص النوعية لهذه الحضارة في 30 تغييرا نوعيا لم تعرفها حضارات الأمس، تلك الحضارات التي كانت تستعبد الإنسان وتطمس فرديته ليكون نسخة مكررة من غيره: يهتف للسائد ويتعصب للمألوف ويقاوم التغيير، كان الفرد مبرمجاً ليكون خلية في جسم القبيلة أو الدولة ليس من حقه التفكير المستقل، كان تقديس السلف والتعصب لأقوالهم وعدم إخضاع الموروث للمراجعة والنقد هو المنهج المتبع، كانت حركة المجتمعات محكومة بفكرة أن السابق لم يترك للاحق شيئاً، كان الناس يؤمنون بفكرة التراجع الحضاري المستمر بمعنى أن كل جيل لاحق هو أدنى في كل شيء من الجيل الذي قبله، كان الإنسان يعتمد اعتماداً كلياً على ما تنتجه الأرض عبر آلاف السنين، إذ كان عالة على الطبيعة حتى جاء فكر الأنوار فاستيقظ الإنسان ليكتشف طاقاته الخلاقة الكامنة: فكراً وعلماً واختراعاً ومبادرة وإبداعاً ومهارة. وهكذا تحول الإنسان من الاعتماد على ما تجود به الطبيعة إلى الاعتماد على ما يبتكره عقله وإبداعه ومهارته، وهكذا أصبح الإنسان في ذاته هو الطاقة المتجددة وغير الناضبة، وذلك هو أعظم إنجازات التنوير في أنه جعل الإنسان أعظم ثروات الأمم، ثروة دائمة. إنه "العقلية التخليقية" التي تحدث عنها الكاتب الأميركي كلفر في كتابه "لن يجوع العالم" في استثمار الذكاء الإنساني، هل عرفت حضارتنا الفكر التنويري؟ وهل الدين يناقض التنوير؟ الأديان كلها رسالات تنويرية للإنسان لانتشاله من الظلمات والضلالات المحيطة به، جاءت هادية لعقله ومنيرة لضميره ومهذبة لسلوكه كما في "الوصايا العشر". وجاءت رسالة الإسلام خاصة تثير العقل البشري للتفكير والمراجعة للموروث من العادات والتصورات، جاءت لقوم أبرز صفاتهم أنهم يقدسون أسلافهم ويتمسكون بمواريثهم ولا يعملون عقولهم فيها، جاء القرآن ليقول إن إعمال العقل فريضة وعبادة، وإن التقليد والاتباع- من غير تبصر- قصور وإهمال وعجز. وكانت دعوة الإسلام دعوة لتحرير الشعوب من سلطتين متحكمتين: السلطة السياسية والسلطة الدينية، وعندما قال القرآن الكريم "لا إكراه في الدين" فإنه أعلى من شأن عمل العقل في الاختيار. وقد عرفت حضارتنا على امتداد 5 قرون نهضة عظيمة عمادها التنوير والعقلانية، وأنتجت عباقرة ومبدعين أبرزهم ابن رشد، وكانت "قرطبة" كما يقول جارودي في كتابه "قرطبة عاصمة الفكر" منارة تنوير للعالم كله من القرن الـ9 إلى القرن الـ13 وما كان الإنسان يعد مثقفاً في تلك الفترة إن لم يكن يعرف العربية، وفي تلك العصور الذهبية كان الدين والفلسفة توأمين لا ينفصلان طبقاً لهاشم صالح في كتابه التنويري المهم "الانسداد التاريخي: لماذا فشل مشروع التنوير في العالم العربي؟". الآن: ما حاجتنا إلى فكر التنوير؟ وما دور الشباب فيه؟ إن ما تعانيه مجتمعاتنا من ظواهر التطرف الديني والمذهبي والتعصب والعنف والكراهيات المتبادلة كل ذلك في تصوري يرجع إلى تهميش فكر التنوير عن منابر التوجيه والتثقيف، ومن ناحية أخرى فإن الفكر التنويري لا يجد بيئة حاضنة ولا سنداً ولا دعماً في الوقت الذي يجد الفكر المناوئ للتنوير منابر وفضائيات ومنتديات وجماعات وأحزاباً تدعمه وتروج له وتشحن قلوب وعقول الناشئة والشباب بفكر الكراهية للآخر، وتقديس المراجع الدينية والأيديولوجية التابعة لها. إن نشر فكر التنوير يجب أن يكون مهمة أولى من مهام المفكرين والمثقفين والإعلاميين ومنظمات المجتمع المدني وحقوق الإنسان، إضافة إلى مساندة ودعم علماء الدين المستنيرين له، وذلك انطلاقاً من النظر إلى الإنسان باعتباره قيمة مركزية عليا، وأيضاً من أهمية تحكيم العقل في كل شؤون الحياة. أما عن دور الشباب في حركة التنوير فإن من أكبر مهامهم أن يفتحوا عقولهم وقلوبهم لجميع التيارات السياسية والفكرية والثقافية والدينية والمذهبية، ويزيل كل الحواجز النفسية والمذهبية والأيديولوجية بين بعضهم بعضاً، فهم جميعاً أبناء وطن واحد، على الشباب الاستماع إلى كل وجهات النظر والتمسك بآداب الحوار وعدم تخوين أو تكفير أو تفسيق أو اتهام الآخر المخالف، كما أن عليهم أن يحسنوا الظن بمن يخالفهم، عليهم أن يتعمقوا في القراءة والثقافة، ولكن عليهم في نفس الوقت إخضاع كل ما يقرؤونه أو يستمعون إليه للفكر النقدي وإعمال العقل، ففي ذلك التحصين الفكري الشافي من أمراض التطرف والتعصب وكراهية الآخر، كما أن عليهم التمسك بمفهوم المواطنة كانتماء أعلى فوق كل الانتماءات والولاءات، فالمواطنة هي الابن الشرعي لفكر الأنوار.* كاتب قطري