رواية «عمرة الدار» للكاتبة المصرية هويدا صالح عمل روائي عكس حياة الريف بجدارة، في كتابةٍ حملت كل التفاصيل الحميمة للأسرة الريفية من داخل جدران منازلها ومن خارجها.

Ad

كتابة عفوية سلسة أبرزت بساطة الحياة لعالم الفلاحين وما فيه من أفراح وأحزان وخيالات وأوهام ومخاوف ساذجة تمر بضجيج الحركة الحياتية المفتتحة بأذان الفجر المرتبط بصيحة جنية البيت المسماة بـ»عمرة الدار» للقيام بالصلاة وهو الاسم الذي تطلقه عليها الحاجة دولت صاحبة الدار زوجة الشيخ صالح، وبداية صحو يومها النهاري المصاحب لهذه الصيحة حياة تتحرك وتتموج بكل التفاصيل التي تحدث الآن، والتي حدثت في الماضي، والتي ستحدث في المستقبل، هيصة وضجيج من التفاصيل وفتاتها، كل ما اختزنته ذاكرة هويدا وصرته في عالم طفولتها الذي نماها في صمت الحب والحنين لزمن مفقود اختزن كل «النستالجي» لذاك الزمن الذي كان غارقا في بساطة ونقاء دهشته وبراءته.

الرواية ليست إلا هذه التفاصيل التي وعتها وخزنتها الذاكرة الملفوفة في تلافيف الوعي الذي لا يغفل ولا ينام ولا يغيب، التقط كل هذه الصور بمونتاجها الذي قام الزمن بتقطيع وقص ولصق لقطاته بحسب تواتر حضور أهميتها وأولويته في العمل، فالرواية لم تعط لزمن الحكي أولوية مثلما أعطتها لكتابة التفاصيل، حقيقة التفاصيل هنا هي مخ وهيكل العمل، وما الحكايات من زواج وطلاق وموت وولادة وغيرها إلا أحداث كومبارس للتفاصيل التي بكفاءة عالية أكلت الرواية كلها واحتلتها لصالحها.

تفاصيل تحمل دفق حميميتها التي تنقلها إلى القارئ وتبثها عبر وعيه وحواسه، لتنقله معها في صحن البيت الريفي ليراها وليحسها وليشمها في حركة أهل الدار من عجين وخبيز وغسيل وعراك ومزاح وحب وغيرة وصلح ونكد ومعايرة مع تصاعد رائحة الخبيز والطبيخ وضجيج الأطفال، واختلاط حياة الجن والعفاريت ومشاركتهم لهم في الدار بشكل طبيعي انسيابي وعادي، بحيث لا يشكل أي استغراب أو ضرر، الكل متعايش بقبول لوجود الآخر ومتسامح معه وعامل له حسابا في قسمة الحياة المشتركة بينهم في داخل أسوار البيوت أو في الخارج حيث يتقاسمون أيضا حياة الغيطان، فلا تعرف من هو الشخص الملبوس ومن هو السليم العادي، تتمازج الحياة في هذه الرواية بشكل طبيعي وسلس لا تشكل أي غرابة لمن يحيا فيها، فكلها أمور طبيعية، ومنسجمة في قانونها الخاص بها.

وإلى جانب هذا العالم السحري الأسطوري نجد العالم الصوفي الذي يمارسه ويحيا في قلب تفاصيله الجد الشيخ صالح الذي يُحيي الحضرات الدينية الصوفية في كل عام ويفتح فيها بيته لكل المريدين، وبذلك تكتمل صورة هذا العالم المختلط فيه الأنس بالجن بحضرة الدراويش وعفاريتهم.

الرواية هذه حملت لي مشاعر لعوالم لطيفة تسيطر فيها أجواء قصص الجدات وحكايات ألف ليلة وليلة حيث تذوب كل الغرائبيات في عجين القص المرن الطيع السلس الذي يُعيد عجن هذه المواد المخمرة في سجل الذاكرة منذ زمن طويل، حتى استوت وتمازجت وضاعت منها كل شوائبها لتولد في النهاية بهذه الطبيعية المتماسكة في نسيج موحد لمواد صعب أن تتوحد حتى يلتبس على القارئ ما بين الحكايات والأساطير وما بين الحقيقية والخيال.

الرواية احتشدت بالوصف، وبالرغم من أني لا أحب الإطالة في الوصف إلا أن الوصف هنا مختلف فقد كُتب بسلاسة وحميمية واسترسال تجعل القارئ يعايشهم كأنه فرد منهم، كما أنه تميز بطلاقة الحوار وبخفة دم مصرية وبحضور حي مكثف لكل دفقات الحياة اليومية كأنها مشاهد في فيلم سينمائي.

رواية فيها الكثير من شخصية الصديقة هويدا صالح، وشخصياتها فيها الكثير من طبعها وتشبهها في مواقفها القيادية بشخصية الحاجة دولت وشخصية صباح زوجة ابن الحاجة، وشخصية فايزة القادرة على إعادة البناء والخلق والوقوف في وجه الشدائد.

والجميل في الرواية أيضا عناوينها غير المألوفة مثل اسم الرواية، راكية النار، كيزان الذرة، اغتسل بالماء والملح من أجل عيونها، جاءت بالقوة هذه المرأة، كان يفرك القمح للطيور، لم تغفر يوما موتها، فقط روحها المحاربة.

رواية عمرة الدار لها روح خاصة بها كتابة متفردة بشكلها الريفي المصري، لا يمكن مقارنتها بأي شكل روائي آخر لأنها تحمل بصمة محليتها بامتياز.