لندن مشغولة اليوم باليوبيل الماسي لتتويج الملكة إليزابيث، وكانت حصتي من الاحتفالات حفلة موسيقية في قاعة ألبيرت الملكية RAH، خُصت بإنجاز موسيقي نسائي (قائدة أوركسترا، عازفات آلة منفردة: فايولين، بوق، كلارينيت) لأعمال كونشيرتو منتخبة من هايدن، موتسارت، رافيل، يوهانس وليمز وألغار. كان البرنامج متسعاً بفعل روح الاحتفال الذي يُسعد الناس، لكنه يفتقد العمق بفعل المناسبة. وكأن السعة تتعارض مع العمق. ياللغرابة!

Ad

كنت أتأمل مسرّات الناس، الذين كانوا يصفقون مع انتهاء كل حركة من العمل الموسيقي، مع أن التصفيق يجب أن يحدث مع نهاية العمل كله. وكنت أتأمل أيضاً عمارة القاعة الداخلية بالغة السعة والضخامة، مع جلال ورشاقة يفوقان الوصف، وهي تعوم وسط أفق نصف مُضاء. كنت أتأمل هذين، غافلاً عن واقع أن الموسيقى قد تحولت إلى خلفية تصويرية. الأمر الذي يتنافى مع القاعدة الذوقية. ولكن ما من مقاومة أمام مسرات الناس، أو أمام هذا التقارب المدهش بين الجلال والرشاقة.

في عددها السنوي دعت مجلة الجمعية الملكية للأدب، بمناسبة اليوبيل الماسي للملكة إليزابيث، بعد خمسين عاماً من تسلمها العرش، عدداً من الكُتاب ليتحدثوا عن أهم ما يميز هذه "المرحلة الإليزابيثية الثانية" من تاريخ الأدب الإنكليزي. البروفيسور جون كارَيْ، صاحب الكتابين النقديين المهمين "المثقفون والجماهير: الزهو والتحامل بين مثقفي الأدب من 1880 إلى 1939"، و"أي نفع يُجنى من الفنون؟"، كان في مساهمته حصتي الثانية:

"بالنسبة لي" يكتب كارَيْ "إن الانجاز الأدبي الكبير في السنوات الستين الأخيرة يتعين في استرداد عافية الشعر من قبضة طليعيي الحداثة. فقد صار من المألوف، على امتداد النصف الأول من القرن العشرين، الاعتقاد اليقيني بين شعراء ونقاد الأوساط الأدبية بأن يكون الشعر عصياً على الفهم...".

"شاع اعتقاد بأن العمق في الشعر قرين ضروري للغموض، وأن تكتب شعراً يمكن أن يفهم من قبل القارئ العادي يعني أن تُنزل نفسك إلى مرتبة الناظمين الدنيا. إن أكثر الشعراء شهرة في النصف الأول من القرن العشرين، أودن ودلان توماس على وجه الخصوص، كانا قادرين تماماً على التواصل مع عقل ومشاعر القارئ، وحين حققا ذلك قدم كلاهما قصائد أصبحت شريانا حياً في حياتنا الثقافية.

على أن هذين الشاعرين، يقول كارَيْ، كتبا في أحيان كثيرة قصائد خالية من المعنى وعصية على الاستيعاب.

"ولقد حدث التغيير، عند أواسط القرن، على يد شعراء ثلاثة: فيليب لاركن، الذي بدأ بداية زائفة مع مجموعته الأولى "سفينة الشمال" (1945)، المتأثرة بالشاعر الأيرلندي ييتس، ولكنه وجد صوته الخاص في مجموعته الثانيةLess Deceived (1955). بعد ذلك بسنتين نشر الشاعر تيدهيوز مجموعته "صقر في المطر". الشاعران لاركن وهيوز جاءا من جذور شعرية مختلفة: لاركن جاء من أفق الشاعرين توماس هاردي وأودن، وهيوز جاء من أفق وردزورث ود.ه. لورنس. ولكنهما يتشابهان من حيث الوضوح. قصائدهما يمكن أن تقرأ وتفهم من قبل طلبة المدارس. كلاهما حازا احترام المؤسسة غير الأدبية.

"الشاعر المغير الثالث هو شيموس هيني، الذي دخل المرحلة الإليزابيثية هذه عنوة لأنه أيرلندي بتصميم. ولكنه، شأن الاثنين السابقين، تجنب الإشارات المعرفية والثقافية الضمنية، وكذلك التكلف الأسلوبي، واختار أن يكتب حول أشياء الحياة المألوفة.

"دون هؤلاء الشعراء الثلاثة كانت هذه السنوات الستون ستبدو بالغة الفقر".

هذا الرأي الموجز لابد سيستثير سلباً المنتصرين لطليعيي الحداثة الشعرية الإنكليزية المعاصرة، الأمر الذي لا يعنيني كثيرا بفعل الكثافة والتزاحم المعقد لموضاتهم. المعضلة في طليعيي حداثتنا الشعرية والنقدية الذين يقلدون الغرب حتى في التقديم المتكَلّف للبرامج التلفزيونية، وعادة ما يتم التقليد بعد زوال موضتهم بعقود.

إن كلام كارَيْ لابد سيخلف حموضة في معدهم، لأنهم لم يتجاوزوا طليعيي الغرب القدامى في الشعر والنقد، بل يهمون في كل سنة للقفز عالياً على شطارات الغرب الشعرية والنقدية، بنيّة لا حياء فيها لتجاوزها باتجاه الهوة.