وحده الاستقرار سيحمي الصومال وليبيا من جماعات «القاعدة»
لا شك أن الاستراتيجية الأميركية التي تقضي بطرد المتطرفين هي مجرد تدبير موقت، إذ ينسحب «المهاجرون» المجاهدون نحو مناطق الفراغ الأمني.
تشكل عمليات طرد حركة "الشباب" الصومالية من معقلها في كيسمايو وجماعة "أنصار الشريعة" من بنغازي في ليبيا أحدث نجاحين ضمن الجهود المشتركة التي تقودها الولايات المتحدة لاستئصال الجماعات المرتبطة بـ"القاعدة" من الشرق الأوسط وإفريقيا، لكن لا يعني ذلك على الأرجح أن التطرف انتهى في تلك المناطق أو أن قوة السلاح توفر حلولاً أمنية طويلة الأمد في المنطقة.لقد شهدنا أحداثاً مماثلة في السابق، فكانت تجربة العراق نموذجية في هذا المجال: ينسحب المقاتلون المرتبطون بـ"القاعدة" تزامناً مع تنامي العدائية المحلية قبل أن يعودوا مجدداً حين يصبح المناخ العسكري والاجتماعي أكثر ملاءمة.
بدأ هذا النمط مع حملة "الصحوة" وخطة زيادة عدد القوات الأميركية بين عامي 2006 و2007 في العراق، وبهدف التصدي لتنامي نفوذ تنظيم "دولة العراق الإسلامية" الذي تسيطر عليه "القاعدة"، استيقظت القبائل السنّية المحلية من سباتها ولم تعد تتقبل تلك الجماعة بسبب إقدام المتطرفين على تطبيق الشريعة بطريقة متزمتة وبسبب الرشاوى الأميركية الفاضحة، كما ساهم انقلاب القبائل على "دولة العراق الإسلامية" في تنفيذ عملية عسكرية مركزة، وقد شملت آلاف القوات الأميركية الإضافية من أجل طرد المتطرفين.غداة خطة زيادة القوات العسكرية في العراق، "هاجر" مئات المقاتلين الإسلاميين إلى أفغانستان، فمن وجهة نظر المتطرفين، كانت تلك الحركة عبارة عن استراتيجية متعمدة اسمها "الهجرة" (في إشارةٍ إلى هجرة النبي محمد ورفاقه من مكة إلى المدينة المنورة لتجنب هجوم قاتل). في مرحلة لاحقة، حين نشر الرئيس أوباما 47 ألف جندي إضافي هناك بين عامي 2009 و2010، عاد المقاتلون الإسلاميون أدراجهم.في تلك المرحلة، كان الخلاف قد احتدم بين القبائل السنّية في العراق والحكومة الشيعية المدعومة من الولايات المتحدة؛ لأن الفريق الأول اعتبر أن الحكومة تتحرك ضده، ونتيجةً لذلك، أصبحت القبائل أقل عدائية تجاه "دولة العراق الإسلامية" التي تمكنت من إعادة تنظيم نفسها.في نهاية عام 2011، انسحبت القوات الأميركية من العراق وفتحت المجال أمام عودة "دولة العراق الإسلامية"، فهذه السنة، أدت "عملية تحطيم الجدران" إلى مقتل أكثر من 400 شخص خلال شهر رمضان وحده. من المتوقع أن يتكرر النمط نفسه في ليبيا والصومال، ولا شك أن تشتيت العناصر هو نتيجة مُرضية بالنسبة إلى جماعات مثل "القاعدة" لأن صمودها يتوقف على حركتها المستمرة، وهذا ما يفسر التقارير الغامضة الأخيرة التي صدرت من كيسمايو وبنغازي، فقد أوردت أن المتطرفين "تبخروا بكل بساطة" وتخلوا عن مكاتبهم وأسلحتهم من دون خوض أي صراع غداة مقتل السفير الأميركي كريستوفر ستيفنز وثلاثة دبلوماسيين آخرين في بنغازي في 11 سبتمبر، ولا شك أن بعض المقاتلين توجهوا إلى سورية التي أصبحت اليوم تجذب المجاهدين الدوليين بينما اتجه الآخرون إلى وجهات مجهولة. تذكرنا المكافآت الراهنة مقابل تسليم الأسلحة في بنغازي (الحصول على أجهزة "آي بود" وحواسيب محمولة وفرصة الفوز بسيارة جديدة بعد تسليم الأسلحة) بحملة "الصحوة" السابقة، لكن كما حصل خلال تلك الحملة، تسيء هذه المقاربة فهم طبيعة الولاء ضمن المجتمع القبلي لأنها تظن أنها تستطيع شراءه.من المستبعد أن يكون المتطرفون من بين الأشخاص الذين يصطفون لاستبدال أسلحتهم بمكافآت بسيطة، فمن خلال مواجهتهم بدل محاولة استيعابهم ضمن نسيج ليبيا الجديدة، تُمعن الاستراتيجية الأميركية في تقسيم ذلك المجتمع الذي يجد صعوبة أصلاً في تشكيل أول حكومة "وحدة وطنية". أُقيل رئيس الوزراء مصطفى أبو شاقور بعد سحب الثقة منه بعد 25 يوماً عمد خلالها إلى اقتراح تشكيلتين حكوميتين، لكن فشلت التشكيلتان في كسب التأييد اللازم.في الصومال أيضاً، قد تؤدي هزيمة حركة "الشباب" على يد القوات الكينية في معظمها والمدربة من الأميركيين إلى تراجع شعبية العشائر المحلية النافذة، علماً أن عدداً منها كان يدعم تلك الجماعة إلى أن منعت منظمات المساعدة الغربية من دخول المناطق التي كانت تسيطر عليها خلال موسم الجفاف والمجاعة في الصيف الماضي. ربما انسحبت عناصر "الشباب" موقتاً إلى المعاقل المتبقية في الداخل، لكن لطالما لام الصوماليون "الجهات الخارجية" والتدخل الخارحي على الفوضى وغياب الاستقرار طوال 20 عاماً (إنه تحليل مشترك بينهم وبين الإسلاميين).إذا عجز الرئيس الجديد، حسن شيخ محمد، عن العمل من دون دعم دولي قوي، فسيصعب حكم البلد، وقد يتطلع الشعب مجدداً إلى حركة "الشباب" لفرض شكل معين من النظام والقانون (ولو بشكل متطرف) ولرفض المناورات الغربية، كما تبرز المعضلة نفسها في أفغانستان خلال عهد حامد كرزاي، ويجب أن يثبت النظام الليبي الجديد قدرته على الحكم بنفسه.توسعت شبكة الجماعات المرتبطة بـ"القاعدة" على مر السنين، وقد منحهم الفراغ الأمني الناجم عن أحداث الربيع العربي فرصاً جديدة، ولا سيما في ليبيا واليمن ومالي وسورية، إذ يتوجه مئات "المهاجرين" المجاهدين إلى سورية، ما يؤجج مآسي ذلك البلد.في الوقت نفسه، تقدم موجة الديمقراطية التي تجتاح المنطقة فرصة حقيقية لكسر دورة الهجرة والعودة التي شهدها العراق، وإذا تمكنت الحكومات المسلمة المنتخبة حديثاً من سد الثغرات التي خلّفتها الجماعات المتطرفة وفرض الاستقرار والعدل والأمن بنفسها، فسيتلاشى دور تلك الجماعات وقد تسعى حينها إلى المشاركة في العملية السياسية.عبد الباري عطوان Abdel Bari Atwan* رئيس تحرير صحيفة "القدس العربي"، مقرها لندن. نشرت دار الساقي كتابه الذي يحمل عنوان "بعد بن لادن: الجيل المقبل من القاعدة" (After Bin Laden: Al-Qa'ida, the Next Generation).