العلاقة الخفية بين المبارك والأغلبية!
من طبيعة الشارع السياسي الكويتي أنه بات سهل الخطف بشكل سريع نحو جزئيات هامشية تستحوذ على كل انتباهه ومشاعره وحماسه وتفاعله، بعيدا عن رؤية الصورة الكلية ومتابعة الحركة العامة للأمور ومسارات العلاقات التي تتكون وتدور، واليوم أصبحت كل الأطراف السياسية المؤثرة اللاعبة تدرك هذا وتستخدمه بفاعلية، والدليل أنه كلما وقعت السلطة- وسأتقصد ترك لفظة السلطة عائمة هنا حتى تنطبق على كل الاحتمالات التي قد تدور في ذهن القارئ- تحت الضغط، ظهرت فرقعة هامشية جديدة اختطفت الناس بعيدا والأمثلة بلا حصر.ما ستجدونه في السطور القادمة هو محاولة للتمرد على هذه الحالة المرضية السائدة التي أصابتنا جميعا أو كادت، محاولة للابتعاد قليلا وربط خيوط المشهد العام لرسم صورة واسعة لحقيقة ما يجري حاليا بعيدا عما يراد لنا أن نُخدع فنظن أنه يجري. من تابع اعتصام الإرادة الأخيرة بدقة، فلا بد أنه قد وجد أن خطابات النواب، بلا استثناء تقريبا، لم تلامس صميم المطالبات الشبابية التي ظهرت في ذات الاعتصام أنها قد بلغت مستوى المطالبة الصريحة بالملكية الدستورية من خلال الحكومة المنتخبة والدائرة الواحدة بنظام الأحزاب والقوائم، وما يتبع ذلك من تغييرات جذرية أخرى، وأن خطابات النواب ظلت تراوح مكانها، مهما ارتفع في الظاهر صوتها، حيث استخدمت ذات المصطلحات المخاتلة غير الصريحة القابلة للتأويل على أكثر من وجه وللتنصل من دلالاتها إن جدّ الجدّ.
والسبب في ذلك هو أن التعديلات الجذرية في شكل النظام السياسي الحالي والتي يطالب بها الشباب، أعني الملكية الدستورية الصريحة، ستضر بمصالح أغلب النواب، سياسياً واجتماعياً ومالياً، ولهذا فهم لا يريدون تغيير الحال عما هي عليه، أو لا يريدون في أبعد البعيد إلا تغييره إلى هيئة تبقيهم موجودين وفاعلين على خشبة المسرح السياسي ولا تهدد مصالحهم.وهذه ليست حال هؤلاء النواب فحسب، بل هي حال المحيطين بهم أيضا، فليست الحكومة وحدها من يحيط بها المتنفعون، بل حتى النواب هناك الكثير ممن يحيط بهم ويتنفع سياسيا وإعلاميا واجتماعيا بل ماليا. والحكومة كذلك قد اكتشفت اليوم أن تحويل الدوائر إلى المحكمة الدستورية كان خطأً استراتيجياً، وأن من قرر ذلك، سواء بشكل جماعي أو بقرار منفرد، لم يكن يرى الصورة الشاملة أو يدرك مآلات الأمور. تحويل الدوائر إلى "الدستورية" جعل المطالبات السياسية الشعبية، وبالأخص الشبابية، تفلت من عقالها وتخرج عن حدود السيطرة، وتصل إلى مستويات مرعبة، مستويات هي في نظر السلطة شكل من أشكال الانقلاب على النظام، إن لم يكن هو بعينه. هذا الأمر وضع في يد النواب ورقة تفاوض قوية مع السلطة، حيث صاروا يقولون أعيدوا لنا دوائرنا الخمس، ومطالباتنا الأخرى المعلنة والمخفية، وإلا تركناكم نهبا لهذا الشباب المندفع بلا حدود.ولكن، وبطبيعة الحال فإن من الصعب مع ذلك أن تقوم الحكومة بسحب طلب تحويل الدوائر إلى "الدستورية"، فذلك سيريق ماء وجهها ويظهرها بمظهر الضعيف المنكسر وهي الضعيفة المنكسرة أصلا، والحل الوحيد هو أن ترفض المحكمة الدعوى، وتكييف ذلك قانونيا موجود وحاضر، وبذلك تظل الدوائر على ما هي عليه حتى المجلس القادم، والذي غالبا سيقوم بتغييرها، ولكن إلى شكل خدّاع جديد، يخدر الشارع ولا يمس وجود النواب ومصالحهم.وجود هؤلاء النواب وبقاؤهم ضروري للمرحلة القادمة، وذلك لأن رئيس الحكومة بحاجة إلى حلفاء أقوياء، فللرجل طموحاته السياسية المشروعة التي تتجاوز منصب رئاسة الوزراء، وتحقيق هذه الطموحات يستلزم حليفا نيابيا قويا حائزا العمق والمباركة الشعبية، وليس أفضل من نواب كتلة الأغلبية لهذا الدور، وتغيير الدوائر قد لا يعيدهم مرة أخرى إلى المقاعد النيابية وهو ما لا يرغب فيه الشيخ جابر المبارك.ملامح المرحلة السياسية القادمة سترسمها غالبا هذه العلاقة المكشوفة-الخفية بين رئيس الحكومة ونواب كتلة الأغلبية، والتي دارت فوق "وتحت" طاولة مفاوضاتها خلال الفترة الماضية الكثير من الرسائل والاتفاقات، وذلك لتحقيق طموحات الرئيس ودعمها وإنفاذ مصالح النواب.سيستمر هذا ويمضي نحو مراداته ما لم يدرك الحراك الشعبي، وما لم يدرك الشباب على وجه الخصوص حقيقة ما يجري، فيتخلصون من البقاء رهائن في قيد ما يسمى بكتلة الأغلبية ويقلبون الطاولة على الجميع!