قام الشباب بمعظم الحركات التي عُرفت بحركات "الربيع العربي" وسيطرت "الجماعات المنظمة" على معظم تلك الحركات من خلال الانتخابات لأنها كانت أفضل تنظيماً من غيرها، ولديّ حديث صريح لشبابنا العربي الذي كان وقوداً لتلك الحركات، لكنه "خرج من المولد بدون حمص"، وفاز غيره بالنتائج والثمار. ومن حسن الحظ فأنا لا أتعاطى بالسياسة، وليس في نيتي النزول في أي انتخابات، لذلك أستطيع مصارحة الشباب بالأخطاء والنواقص التي تعتريهم، إذ لا أحد يجرؤ من المقبلين على الانتخابات والسياسيين والإعلاميين على مثل هذه المصارحة. فهؤلاء يشعرون أن عليهم مجاملتهم ومداراتهم وإلا فقدوا الحظوة التي يريدونها لديهم.

Ad

ولقد أعجبني تقرير في "الأهرام" المصرية بعد شهور من نجاح الثورة بمصر، عن ندوة خلاصتها: أن أجهزة الإعلام المختلفة كانت "تنافق" رجال الحكم والسلطة قبل قيام الثورات، وأنها صارت "تنافق" الشباب بعد قيامها. وهذا صحيح. ثمة نفاق" للشباب سيوردهم ويورد الأوطان معهم موارد التهلكة. ومن زاوية معينة لا يمكن توجيه اللوم للشباب، فقد واجهوا منذ نعومة أظفارهم أنظمة قمعية مزمنة فاسدة، كان لا بد من الثورة عليها، وهنا نصادف أول خلل في "المستوى المعرفي" بين الجانبين. فالشباب عفويون لا يملكون معرفة بما وراء الكواليس. وتلك الأنظمة القمعية أنظمة مصالح وأجندات خاصة سخرت لأغراضها بمختلف الوسائل، بحيث ضحت برأس النظام وتركت النظام قائماً دون مساس، وانشغل الشباب وهم "يحتفلون" برحيل أو سقوط رأس النظام، وتصوروا أن الأرض بعد ذلك ستدر لبناً وعسلاً، فلما استيقظوا على الحقيقة المرّة، صاروا يسبون ويشتمون بما يتجاوز الحدود، وأصبح الأصدقاء، يعاملون كأعداء!

وثمة "ظاهرة شبابية" في طريقها لأن تصبح ظاهرة عامة. نقرأ لخالد سلمان، الكاتب العراقي الكردي، عن "الإيمو" في بغداد- و"الإيمو" تعنى النفس الحساسة والتمرد الصادر عن العاطفيين- وهي حالة ظهرت في المجتمعات الغربية، في أميركا الشمالية تحديداً منذ سنوات عدة نظمها شباب من كلا الجنسين وسمّوها بذلك، وأطلقوا على أنفسهم لقب "أصدقاء الشيطان" ومن أفكارهم الغريبة الحزن والتشاؤم والاكتئاب والصمت والخجل، ورسم الوشم وارتداء الملابس السود والقاتمة والسراويل الضيقة جداً، ووضع أغطية المعصم... (الحياة: 13/3/2012م).

ثمة شباب في بلادنا بعيدون كل البعد عن هذا السلوك، ولكن لا بد من دراسة المؤشرات الجديدة المقلقة وفهمها.

إن أولى "نقاط الضعف" التي تعتري شبابنا العربي، عزوفه عن الثقافة العامة، واعتماده التقنيات الحديثة في التواصل وهي لا تسمن ولا تغني من جوع وتحتاج إلى ثقافة وعلم للتمييز بين موادها المتباينة.

أقول ذلك وأنا لست منتمياً إلى جماعة محافظة، فقد كان جيلنا، الجيل الذي نشأت معه جيلاً "ثورياً" بمعنى الكلمة، وكانت الثقافة العامة التي نستقيها من بطون الكتب ومن قراءاتنا الحرة تعيننا على فهم الأوضاع المحيطة بنا، ويقال إن الشباب لم يفقد صلته بالكتاب، والدليل الإقبال على معارض الكتب، فهل يقتني شبابنا الكتاب للزينة فقط؟! إن التمرد من أجل التمرد، والثورة من أجل الثورة، والرفض من أجل الرفض... كل ذلك يمثل حالة مرضية غير صحية. لابد أن يكون ثمة "مشروع" سياسي وراء ذلك كله. هذا ما توصل إليه جيلنا بعد طول معاناة وبعد تكاثر الهزائم و"النكسات".

بعد نكبة 1948م في فلسطين كان هاجس جيلنا التغيير في حد ذاته، وكان الاعتقاد الخاطئ أن الهزيمة وقعت أساساً لأن القيادات لم تكن في مستوى التحدي. لذلك فقد صفق جيلنا طويلاً لانقلابي تافه هو حسني الزعيم قام بانقلابه العسكري في سورية عام 1949م، وكان الانقلاب لا يتعلق بمواجهة إسرائيل، بل كان متعلقاً بخلفية الصراع الفرنسي- الإنكليزي في المنطقة. ومن يترأس الاتحاد العربي المزمع بين العراق وسورية، هل هو العراق، الواقع تحت النفوذ البريطاني، أم سورية الواقعة تحت النفوذ الفرنسي؟! وظل الناس في المنطقة يرحبون بأي تغيير من أجل فلسطين، متنازلين عن حرياتهم وامتيازاتهم الأخرى فلما تبلورت التطلعات العربية في "المشروع القومي العربي المصري" عام 1967م تقرر ضربه وإجهاضه... وهكذا كان وما زلنا ندفع الثمن رغم التضحيات المصرية والعربية التي بُذلت في حرب أكتوبر 1973م . إذن لابد من معرفة الحقيقة والاستعداد للمواجهة، عندما تنضج الظروف، أما الرفض من أجل الرفض فلن يؤدي إلا إلى مزيد من الكوارث.

ثم إن انتشار اللجوء إلى الإنترنت لدى الشباب يفاقم المشكلة بدل أن يحلها: "...أصبح الأفراد في مجتمعات الاتصال محاصرين في زواياهم المنعزلة، وفقدوا حس الاتصال مع الآخرين... ويمكن اعتبار الهوس الاجتماعي شبه المرضي بالاتصال بالمجتمعات الحديثة تعويضاً عن العزلة المهولة التي يعيشونها... فضلاً عن أن العزلة صنعت مجتمعات الاتصال المعاصرة من الأفراد ذرات معزولة... إن الثمن الباهظ للحرية الليبرالية هو العزلة القاتلة". د. عبدالعالي معزوز- الإنترنت والاستلاب التقاني، ص 24- 25 مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، سبتمبر (أيلول) 2011م. ورغم أن الباحث يعرض للظاهرة بعامة، فإننا نعتقد أن تلك الفقرة هي "بيت القصيد".

لن يفلح الشباب إلا إذا جمع بين علم وعمل، ولابد من الاثنين معاً، وأخشى أن كثيرين من شبابنا يفتقدونهما، لابد من علم نافع يشمل الواقع. هذا لا يعني إلماماً بكل شيء لكنه يعني أن يمتلك الشاب الإمكانية للوصول إلى الحقيقة. كيف نبحث... وننقب؟ وهذا ليس الاختصاص الذي لابد منه أيضاً لأن الاختصاص هو الطريق إلى العمل الذي أصبح عملة نادرة لا يتداولها أحد!

نحن في عصر الاختصاص، وليس ممكناً الإلمام بكل شيء، ولابد من التركيز على مجال بعينه حيث يمكن العطاء فيه، أو ينبغي أن نحاول مثل هذا العطاء. بالعلم والعمل يبني الشباب مجده، والصفة الثالثة هي الأخلاق... و"إنما الأمم الأخلاق". أما الربيع... "الذي هو لا عربي ولا إسلامي"... فهو ربيع القوى الكبرى في أوطاننا!

* أكاديمي ومفكر من البحرين