محنة البحث العلمي (2 – 2 )

نشر في 15-05-2012
آخر تحديث 15-05-2012 | 00:01
No Image Caption
 د. نجمة إدريس استكمالاً لمقال الأسبوع الفائت في تفنيد أسباب المأزق الذي يواجهه البحث العلمي في وقتنا الراهن، نورد في هذا السياق سبباً ثالثاً يتمثل في مشكلة الفساد داخل المؤسسة العلمية أو الثقافية، وذلك أخطر الأسباب وأفدحها، لأنه أولاً نابع من داخل المؤسسة لا خارجها، وثانياً لكونه يعبّر عن أزمة أخلاقية ما أحرى بالعلماء والمختصين تجنبها، لكونهم مؤهلين بعقلية مدرَّبة على الالتزام بالحيدة والموضوعية والبعد عن مواطن الشبهات والريب.

ويمكن تلمّس شواهد الأزمة الأخلاقية في مشهدين مهمين: الأول مسألة السرقات العلمية التي يتأكد التورط فيها وثبوتها، سواءً بالسطو على نتاج الآخرين أو بشراء الجهود والذمم. والمشهد الثاني يتمثل في التنافس غير النزيه، وفي الصراعات التي تفتقد شرف الخصومة وشروطها النبيلة. وبين مطرقة السطو العلمي على جهود الآخرين وسندان الصراعات المفتعلة والمفبركة داخل المؤسسات العلمية والثقافية يبدو المشهد مربكاً ومفتقراً إلى الحزم والضبط. وبين هذا وذاك تمرر الكثير من التجاوزات وتقع الكثير من المظالم، ويُمسخ الوجه الأنصع للمؤسسة وهو البحث العلمي.

أما السبب الرابع الذي ربما ساهم في تحجيم البحث العلمي وقمعه، بل كرّس مسايرته للتقليدية والاتّباعية والمهادنة، لا الابتداع والإضافة، فلعله يكمن في حجم التسلط المهول لفكر التوجه الواحد الذي تقوده قوى حركية وسياسية آخذة في التفرع إلى طائفية وقبلية وفئوية. وفي واقع مثل هذا يتم فيه تكريس الرأي الواحد والمعتقد الفكري الواحد ونمط الشخصية الواحد، فمما لا شك فيه أن هذه

"النموذجية" و"النمطية" سوف تتكرس أيضاً حتى في البحث العلمي. ومن هنا تتأسس عقلية نبذ المخالفة والمغايرة والخروج عن السرب، متخذة من أدوات القمع والتحجيم والافتئات ما يضمن لها المحافظة على نزعتها في التسلط والاحتكار. وفي ظل أوضاع مثل هذه، يكون البحث العلمي والتوثيقي هو الضحية الأفدح تضرراً، لكونه إرثاً ثقافياً يؤرخ للشعوب وحركة المجتمعات. أما مدى موضوعية هذا التأريخ ووثائقيته فمنوط بمساحة الحرية الفكرية المتاحة أمام الباحثين، تماماً كما هو منوط بمدى الثراء والتنوع في الرؤى والتوجهات العقائدية والفكرية.

وتعقيباً على كل ما ورد من أسباب سالفة كانت حجر عثرة أمام البحث العلمي الحرّ، لم يبقَ إلا أن نشير إلى ظاهرة غير حميدة أصبحت من مفردات الحياة اليومية الدارجة. وأعني بها ما تجود به الصحافة المكتوبة من استسهال الخوض في موضوعات بحثية ليس مكانها صحف الرأي اليومية، ولا مقامها تلك السجالات المبتسرة التي يتراشق بها المحررون والعوام. ذلك أن البحوث العلمية لها سياقاتها الاستطرادية المتأنية والبناء المنهجي التراكمي، الذي قد يرتبك معه الفهم والإحاطة حين يأتي مبتسراً أو مقتطَعاً من سياقه العام ضمن خبر أو مقالة مختصرة. ولعله من الأمور المتعارف عليها علمياً أن المجال المناسب لعرض ونشر البحوث والدراسات هو الدوريات المتخصصة والمجلات المحكمة والكتب الصادرة عن مؤسسات أكاديمية أو ثقافية معتبرة. ويمكن لمن أراد مقارعة الرأي بالرأي أو السجال حول قضية فكرية أن ينشر بحثاً موازياً في ذات الدورية أو المجلة العلمية، أما الحروب الصغيرة عبر الصحف اليومية والتراشق بالادّعاءات والأقاويل فلن تكون في صالح البحث العلمي قطعاً.

وهذا الأمر -وأعني به السجالات التي تأتي في غير مقاماتها- سبق أن نبّه له الكثير من المهتمين والغيورين، ولكن لم تكن -للأسف- إشاراتهم وتحذيراتهم غير صرخة في واد! وها نحن نشهد بين الفينة والأخرى معارك مؤسفة في الصحافة حول فتاوى دينية أو آراء عقائدية وفكرية يخوض فيها كل من هبّ ودبّ دون استناد إلى علم أو تخصص أو حتى رؤية منهجية متكاملة.

أعتقد أننا في المرحلة الراهنة في أمسّ الحاجة إلى تكريس لون من الأمن الفكري والنفسي لتزدهر في ظله الجهود البحثية دون معوقات أو عراقيل.

 

back to top