ولدت سعاد العامري لأب فلسطيني وأم سورية في دمشق عام 1951 وترعرعت في الأردن. عندما بلغت الثامنة عشرة من عمرها، انتقلت إلى بيروت لتدرس الهندسة في جامعة بيروت الأميركية. ثم تابعت دراستها في جامعتي إدنبرة وميشيغان لتحصل على شهادة الدكتوراه. عام 1981، زارت العامري رام الله، حيث تعرفت إلى سليم تماري، أحد أبرز الباحثين في مؤسسة الدراسات الفلسطينية، فتزوجته وأقامت في رام الله.

Ad

أولت العامري التراث المعماري الفلسطيني أهمية كبرى، فأسست عام 1991 مركز المعمار الشعبي الفلسطيني «رواق»، الذي ترأسه راهناً. ويهدف هذا المركز إلى حماية الممتلكات الثقافية والمعمارية والطبيعية الفلسطينية. للعامري كتب عدة في مجال الهندسة، إلا أنها حصلت على جائزة فياريجيو-فرسيليا الإيطالية عن كتابها Sharon And My Mother-In-Law (شارون وحماتي). في هذا الكتاب تعرض العامري من خلال تجاربها الشخصية مرارة العيش في الأراضي الفلسطينية المحتلة بأسلوب ناقد لا يخلو من الفكاهة. فتتحدث عن صعوبات التنقل، معاناة الوقوع في حب شخص من بلدة أخرى، عبثية حصول كلبتها على الهوية المقدسية التي حُرم منها فلسطينيون كثر، ومعاناتها مع حماتها التي أقامت في منزلها خلال 42 يوماً، وكل هذا بأسلوب ممتع ساخر. إليكم مقتطفاً من هذا الكتاب:

كان مزاجي عكراً

صيف 1995

«تطردوننا من يافا وتتساءلون لمَ ولدنا في مكان آخر». انطلقت هذه الكلمات من فمي حين فتحته للإجابة عن السؤال الأول في سلسلة أسئلة طرحها عليّ مسؤول الأمن الإسرائيلي في مطار اللد (تل أبيب). كان مزاجي عكراً بالتأكيد، فقد أشارت الساعة إلى الرابعة والنصف بعد منتصف الليل في ذلك اليوم الحار من أيام صيف عام 1995. أنهكتني الساعات الخمس التي أمضيتها على متن الطائرة قادمةً من لندن، فرغبت في مغادرة المطار بسرعة لألتقي إبراهيم، الذي أعرب عن لطف كبير بقدومه من رام الله ليقلني في هذه الساعة المتأخرة.

ازداد توتري واستيائي عندما وسمت الشابة عند نقطة التحقق من جواز السفر جواز سفري الفلسطيني بعلامة وردية. لا شك في أنني لا أكره اللون الوردي ولا انتمائي الفلسطيني، لكن جلّ ما أردته في تلك اللحظات علامة بيضاء. فكما تعلمت من تجاربي السابقة، يعني اللون الوردي تلقائياً تمضية ساعة إضافية مع مسؤولي الأمن في المطار. وكم رغبت في علامة بيضاء في تلك المرة!

كرر مسؤول الأمن سؤاله، وقد بدا غير راض أو مسرور بردي العدائي: «لمَ ولدتِ في دمشق؟».

لم أشأ أن أخبره أن أبي الذي قدِم من يافا إلى بيروت، عشق أمي الدمشقية لحظة رآها عام 1940. كانت في الثامنة عشرة من عمرها وهو في الثالثة والثلاثين. كان أبي قد تخرج في جامعة بيروت الأميركية منذ نحو 12 سنة، في حين أنها كانت لا تزال طالبة في معهد التدريب البريطاني السوري.

حالما وطأ والدي باحة منزل عائلتها الضخم في دمشق القديمة وأدرك مدى ثراء والدها التاجر، بدأ حلمه بالزواج من تلك الشابة الطويلة الفاتنة ذات العينين الرماديتين الضاربتين إلى الخضرة بالتلاشي. إلا أن هذا الحلم تحقق في النهاية، مع أن أحلاماً أخرى تحطمت، فقد عاش أبي وأمي حياة معذبة معاً.

لم أشأ أن أخبره أن والدي توفي في شهر ديسمبر عام 1978 نتيجة تعرضه لنوبة قلبية في براغ خلال حضوره مؤتمراً للكتّاب. كان الكاتب الفلسطيني المشهور إميل حبيبي آخر مَن رأى والدي حياً، بعد أن أمضى الأمسية معه.

لم أشأ أن أخبر مسؤول الأمن الإسرائيلي أن أمي، كلما حملت، قصدت دمشق لتلد. ففي الأعوام 1943، 1944، و1949، سافرت من القدس إلى دمشق لتلد أختيّ أروى (هي اليوم عالمة نفس تعيش في عمان) وعنان (عالمة اجتماع تقيم راهناً في الولايات المتحدة الأميركية)، ولاحقاً أخي أيمن (دبلوماسي). كذلك سافرت من عمان إلى دمشق عندما ولدتني أنا بعد سنتين. لم أرد أن أخبره بذلك لأنه سيزيد الطين بلة وسيفاقم مخاوف مسؤول الأمن حيال أمن إسرائيل، ما قد يطيل فترة استجوابي.

سألني: «هل عشتِ يوماً في دمشق؟». فجاء ردي مقتضباً: «لا».

لم أشأ أن أخبر مسؤول الأمن أنه قبل بلوغي الثامنة عشرة ومغادرتي عمان لأدرس الهندسة في جامعة بيروت الأميركية، كانت أمي المدمنة على العمل، التي تملك دار طباعة ونشر، تتوق إلى التخلص من أولادها الأربعة كل صيف. فخلال الأسبوع الأول من عطلتنا الصيفية، كانت ترسلنا إلى منزل والديها في دمشق أو إلى أقاربها في بيروت. كنا أنا وأخي أيمن نسعد بتمضية جزء من عطلتنا الصيفية مع عمتينا العزباوين، ناهدة وسعاد (التي أحمل اسمها)، اللتين دللتانا نحن وأختينا المراهقتين. اعتادتا اصطحابنا لقطاف الكرز في منزل عمتي فريدة الصيفي في الزبداني، مصيف سوري يقع في الجبال على بعد 40 كيلومتراً تقريباً غرب دمشق. وكنا أيام الجمعة نساعد عمتَيّ في توضيب الطعام والبطيخ، استعداداً لنزهة في أحد المطاعم الكثيرة على طول نهر بردى (الذي يمتلئ بالبطيخ المبرّد) في ضاحية دومر الخضراء في دمشق. ولطالما اعتبرنا معرض دمشق الدولي أبرز أحداث عطلتنا الصيفية. ففي هذا المعرض، كانت خالتي ناهدة تشتري لنا ما ظنته أحدث المنتجات الروسية: مجموعة من الدمى الخشبية (الماتريوشكا) لي والسيارات والطائرات الخشبية لأيمن. وعندما كانت تنفد أفكارها، اعتادت عمتي ناهدة اصطحابنا في نزهة في سوق الحميدية المكتظ، حيث كنا نطفئ ظمأنا بمثلجات الفستق الحلبي والعلكة العربية الدبقة من متجر بكداش للبوظة. رغم مرور 40 سنة، ما زلت أذكر طعم العلكة العربية تلك. خلال قيلولة عمتيّ في فترات بعد الظهر، كنا نلعب ونركض حول نافورة الماء الكبيرة وسط الدار مع كثير من أولاد أعمامنا وأقاربنا. إلا أن عطلتنا الصيفية ما كانت تكتمل من دون زيارة بيروت. فبعد بضعة أيام من التذمر المتواصل، كانت عمتاي ترضيان بمرافقتنا (وكانتا أحياناً ترسلاننا بمفردنا) للإقامة مع العم ممدوح والعمة فردوس في منطقة زقاق البلاط.

كي نتفادى طباع العم ممدوح الحادة، كنا نمضي معظم اليوم في السباحة قبالة شاطئ فندق السان جورج المكتظ في طقس بيروت الحار والرطب. في نهاية عطلتنا التي تدوم ثلاثة أشهر وقبل يوم أو اثنين من بدء المدرسة، نعود إلى عمان لنسمع والدتنا تتشكى من بشرتنا الداكنة. فالدمشقيات يعشقن البياض ولا يقدّرن مفهوم السمرة الرائجة صيفاً.

سألني المسؤول الإسرائيلي: «هل لديك أقارب في دمشق؟». فاكتفيت بالإجابة: «لا».

لم أشأ أن أخبر مسؤول الأمن هذا في مطار تل أبيب أن والدتي كانت الصغرى في عائلة تتألف من 11 فرداً، وما هؤلاء سوى عائلتها المباشرة. لم أرد أن أخيفه بإخباره أن لدي أربع عمات وأربعة أعمام، فضلاً عن 20 ابن وابنة عم وعمة، يعيشون كلهم في دمشق مع عائلاتهم.

لم أشأ أن أخبر المسؤول الإسرائيلي أن حاجيات أمي من طعام وخضر وغيرهما من سلع تأتيها أسبوعياً من دمشق منذ عام 1950. فقد بدا مستحيلاً إقناع أمي أن في عمان لحوماً وخضراً وفاكهة جيدة. وكان هذا شأنها أيضاً خلال إقامتنا في مدينتي السلط والقدس. أما المرة الوحيدة التي اضطرت فيها إلى شراء منتجات محلية، فكانت خلال إقامتنا في القاهرة عام 1968. وكانت لا تكفّ عن التذمر من أن طياري خطوط الطيران المصرية أقل تعاوناً من سائقي سيارات الأجرة بين دمشق وعمان.

لم أشأ أن أخبره أن دمشق ليست قاعدة عسكرية كبيرة مليئة بصواريخ سام-1 وسام-2، كما يعتقد على ما يبدو. فهي مدينة تضج نشاطاً، خصوصاً في حينا في المدينة القديمة حيث يقع منزل والدي حتى اليوم.

صعب عليّ أن أوضح لمسؤول الأمن الإسرائيلي أني حسدت والديّ وحتى جديّ لأنهم عاشوا في زمن بدت فيه الإقامة في مدن المنطقة الجميلة والتنقل بينها سهلين للغاية ولم تعقهما نقاط التفتيش الأمنية. كانت الحيرة تتملكني كلما راح أبي يصف رحلاته بين يافا وبيروت، متوقفاً لتناول الغداء في مطعم عند شاطئ البحر في صيدا. وكانت حيرتي تزداد حين تتحدث والدتي عن زيارتها وهي بعد في الرابعة من عمرها عائلة أمها، عبد الهادي، في قرية العرّابة في فلسطين. لطالما أسرني الطريق الذي سلكاه بين دمشق والعرّابة، عابرين وادي اليرموك وسهول مرج ابن عامر وسهل جنين. كانت تقول: «قصدنا أولاً أقاربنا في نابلس. وبعد بضعة أيام ركبنا الأحصنة إلى قرية العرّابة». عشقت والدتي رحلتها تلك على صهوة الجواد. أما أنا، فاستأتُ من استحالة القيام بالرحلة عينها بين العرّابة ودمشق اليوم.

سلمني مسؤول الأمن أنا وجواز سفري إلى امرأة مسؤولة عن الأمن تجلس وراء مكتب في غرفة، ثم اختفى، تاركني وحدي معها. راحت تقلّب جواز سفري وسألتني بعدائية: «ماذا كنت تفعلين في لندن؟». أجبتها وأنا أنظر إلى عينيها مباشرة بوجه تعب خال من التعابير وصوت أكثر عدائية: «ذهبت للرقص». فقالت بصوت أعلى وأكثر جدية: «هل تظنين نفسك مضحكةً؟». فرددت بصوت منخفض لم يخلُ من التهكم: «لا، وهل ترين أي مشكلة في الرقص؟». كررتْ: «ما كان هدف زيارتك إلى لندن؟». فأصررتُ على جوابي: «الرقص».

خلال جدلنا هذا لاحظتُ أنها بدأتْ تفقد أعصابها، فيما فارقني النعاس. بعد بضع دقائق، رفعتْ سماعة الهاتف وبدأتْ تتكلم بالعبرية، لغة لا أفهمها. لكن كلمة «رقص» بالإنكليزية تخللت عباراتها العبرية مرات عدة.

لم أشأ أن أخبر مسؤولة الأمن الإسرائيلية أنني كنت في عطلة في اسكتلندا برفقة أصدقاء لم أرهم منذ عام 1983، حين كنت أعمل على رسالتي في جامعة إدنبرة.

لم أشأ أن أخبرها مَن كان هؤلاء الأصدقاء، فذكر أسمائهم الواحد تلو الآخر كان سيزيد الطين بلة ويجعل التحقيق طويلاً ومضنياً. لم أخبرها أن صداقتي ببعضهم تعود إلى سبعينيات القرن الماضي وأيام دراستي الجامعية التي لا تُنسى في بيروت. صحيح أنني كنت منهكة بالكامل، لكني أدركت أن كلمة «بيروت» ستثير مخاوف مسؤولي الأمن في إسرائيل. أما معرفتي بالبعض الآخر من أصدقائي، فترجع إلى الخمسينيات والستينيات، خلال فترة طفولتي ومراهقتي في عمان.

مع دخول مسؤول طويل القامة عريض المنكبين (مديرها على ما يبدو) غرفة الاستجواب، تيقنت أن على المرء ألا يخلط الصداقة بالمسائل الأمنية، خصوصاً إن كانت ترتبط بدولة إسرائيل. ثم بدآ يتحاوران بالعبرية، فازداد قلقي. سألني المسؤول بعدائية واضحة، وهو ينظر إلى عينيّ مباشرة: «ماذا كنت تفعلين في لندن؟». فرددت بإصرار: «أرقص». فقال لي: «أتدركين أن رفضك التعاون معنا في مسائل أمنية سيؤدي إلى اعتقالك؟». فأجبته: «لا بأس!». وتابعت مطلقةً استنتاجاً سخيفاً: «ولكن علي أن أخرج وأخبر إبراهيم المسكين، الذي ينتظرني خارج المطار منذ ساعات ليقلني». فسارع إلى القول: «لا، لا يُسمح لك بالخروج. ومَن هو إبراهيم؟ أهو أحد أقاربك؟».

لم أشأ أن أخبرهما أن إبراهيم ليس قريبي بالتحديد، بما أن أقربائي لا يُسمح لهم باصطحابي من المطار، شأنهم في ذلك شأن زوجي وأصدقائي في رام الله. تساءلت عما إذا كان هذان المسؤولان يدركان أن علي، كما كثيرين من الفلسطينيين المقيمين في الأراضي المحتلة، أن أستحصل على أنواع عدة من الرخص والأذون لأتمكن من التنقل، من بينها إذن لدخول القدس، وآخر للذهاب إلى الأردن، وثالث لدخول إسرائيل، ورابع للعمل في إسرائيل، وخامس مستحيل لزيارة غزة، فضلاً عن إذن مدته أربع ساعات للتوجه إلى المطار. يمنحك هذا الإذن الوقت الكافي للتوجه إلى المطار، شرط ألا يُثقب إطار السيارة وأنت في الطريق لا سمح الله.

إبراهيم واحد من ثلاثة سائقي سيارات أجرة في رام الله يملكون سيارة تحمل لوحة صفراء، ما يتيح لهم نقل المسافرين من المطار. لم أشأ أن أخبر مسؤول الأمن أنني أحلم بأن يتمكن زوجي ذات يوم من إقلالي من المطار أو من جسر اللنبي عندما أعود من رحلاتي. لكن هذا امتياز لا يُعطى لفلسطيني.

قلت: «لا يمكنك أن تمنعني من الخروج لأطلب من إبراهيم الرحيل. من الظلم أن أجعله ينتظر لفترة أطول، خصوصاً أنني سأُحتجز في المطار لمدة طويلة». عندئذٍ خرج المسؤول الإسرائيلي عن طوره وصاح: «لا، لا يمكنك الخروج». فقلت: «بلا، يمكنني». ثم استدرت وبدأت السير، خارجةً من غرفة الاستجواب إلى صالة الوصول المليئة بالمسافرين، كثر منهم قدِموا للاستمتاع بشمس إسرائيل والاسترخاء على شواطئها الجميلة. كان قلبي ينبض بسرعة فيما سرت باتجاه المخرج. عندئذٍ لاحظتُ أن حارسين يسيران على مقربة مني، واحد عن يميني والآخر عن يساري. وظلّ أحدهما يردد: «لا تجعليننا نقدِم على تصرف نكرهه». فصحت: «نعم، لا شك في أن اعتقالي أمام كل هؤلاء السياح يسبب بلبلة تضر بالسياحة في إسرائيل! لمَ لا يمكنكم معاملتي كأي من هؤلاء السياح؟». عندئذٍ، كنت قد خرجتُ أنا والحارسان من صالة الوصول لنقف أمام إبراهيم السائق.

قال إبراهيم وهو يصافحني بطريقة رسمية، من دون أن يرفع عينيه عن الحارسين: «الحمد الله على السلامة، سعاد، خير إن شاء الله؟ شو في؟ (ما الأمر؟)». ثم أضاف وهو يجاهد لمعرفة قصتي مع هذين الرجلين اللذين يرتديان ملابس مدنية إنما تعلو وجهيهما ملامح عدائية: «أين أمتعتك؟». أجبته: «إبراهيم، هذان من حراس الأمن. القصة طويلة. باختصار، أنا قيد الاعتقال وخرجت لأبلغك بألا تنتظرني. أرجوك اتصل بسليم وأعلمه أنني أوقفت في المطار». فكرر وهو تحت وقع الصدمة: «أوقفتِ؟».

حاولت طمأنته بالقول: «لا تقلق يا إبراهيم. ليست مشكلة كبيرة. لقد أوقفوني لأني قلت لهم إنني قصدت لندن للرقص». كان وقع كلماتي هذه أكبر على إبراهيم: «الرقص؟ هل قلت الرقص؟». يا إلهي! هذا ما كنت أحتاج إليه. بدا إبراهيم أكثر حيرة بسبب رقصي في لندن من مسؤولي الأمن الإسرائيليين. ماذا أقول؟ لطالما اعتقدتُ أن الاحتلال أفسد روح الإسرائيليين والفلسطينيين على حد سواء.

كانت هذه الكلمات الأخيرة التي تبادلتها مع إبراهيم قبل أن يقترب منه أحد الحارسَين ويطلب منه مرافقته. فاختفى كارهو الرقص الثلاثة داخل المطار، فيما ظللت واقفة في الخارج من دون جواز سفر أو أمتعة. فبدأت أوبخ نفسي، متهمةً إياها بالطيش والتهور.

بعد أقل من نصف ساعة، خرج إبراهيم من البوابة الكبيرة لصالة الوصول وهو يدفع عربة حقائبي بيد ويلوح بجواز سفري باليد الأخرى. ثم قال وملامح وجهه تعكس فرحة انتصاره: «هيا! لنغادر يا سعاد». قلت له: «ماذا حدث يا إبراهيم. أخبرني». فبدأ يقول بتفاخر: «اتركي الرجال تتحدث إلى الرجال. هيا يا سعاد! لنرحل من هنا. طمأنتهم أنك غريبة الأطوار بعض الشيء». فصحت به: «إبراهيم!». لكنه تابع قائلاً: «لكني أخبرتهم أيضاً أنك بروفسورة مهمة في قسم الهندسة في جامعة بيرزيت و... و... و... وما عساي أقول لهم غير ذلك؟». فأجبته: «توقف يا إبراهيم! خلص (كفى!)». أدركت فجأة كم يعرف إبراهيم عن حياة كل مَن يقيمون في رام الله.

لا شك في أن الإصغاء إلى ثرثرات أهل رام الله كان سبيله الوحيد إلى تحمل عبء رحلاته نهاراً وليلاً بين رام الله ومطار تل أبيب. لكن ما أقلقني حقاً أن يكون إبراهيم قد أفسد ما قمت به، مطمئناً رجال أمن المطار أنني لم أكن أرقص في لندن.

وداعاً يا أمي  -  خريف عام 1981

كنت أعبر نهر الأردن للمرة الأولى منذ عام 1967. كان هذا جزءاً من خطتي الكبرى للعيش في رام الله والعمل في جامعة بيرزيت. في ذلك الصباح، شعرت بالتوتر عندما خرجت من عتبة دارنا في عمان. قلت لأمي: «ماما، هلا تصفين لي الطريق إلى بيتنا في يافا». فتنهدت وأجابتني: «سيكون ذلك صعباً، بما أنك لم تقصدي يوماً يافا ولا منزلنا فيها. ولدتِ أنت وأخوك أيمن بعد بضع سنوات».

أقرّ بأن ملاحظة أمي أثارت استيائي وشعرت بنوع من الإهانة، فأجبتها: «صحيح أنني لم أزر فعلياً بيتنا في يافا، إلا أنني أشعر أنني أعرفه جيداً. ألا يقع بجوار محطة القطار في المنشية، على مقربة من مسجد حسن بيك ومن سوق إسكندر عوض؟ يبعد عن البحر مسافة دقيقتين سيراً على الأقدام. فقد اعتاد والدي عبور الطريق وهو يرتدي ملابس السباحة والمنشفة تتدلى عن كتفيه. كان يسبح كل صباح، أكان الطقس مشمساً أو ماطراً، أليس كذلك؟ يتألف منزلنا من طابقين يحتل الدرج أحد جوانبهما. فيه أيضاً ثلاثة متاجر، يشغل حلاق أحدها. ولا شك في أنني سأعرفه في الحال حين أرى شجرة الليمون الحامض الكبيرة عند المدخل. ألا نملك نحن الطابق العلوي، في حين يعود السفلي إلى العمة نعمة والعم عمر؟ ألست محقة؟ أكانت جدتي تعيش معنا أو مع العم عمر حينذاك؟ متى توفيت جدتي بالتحديد؟ لا شك في أنها ماتت قبل عام 1948 بزمن طويل. كانت أختاي أروى وعنان صغيرتين آنذاك، لا؟ أو لم تكن عنان قد ولدت بعد. في مطلق الأحوال، لا بد من أنه يقع على مقربة من برج الساعة لأني أذكر أن والدي كان يخبرنا أنه استقل العربة من هناك حين قصد بيروت للمرة الأولى لمتابعة دراسته في الجامعة الأميركية في بيروت في خريف عام 1921. رافقه حينذاك جده، بما أن والده كان قد توفي في حادث عندما كان صغيراً. ماما، أتذكرين...». وتابعتُ الكلام. لكن والدتي أوقفت سيل أسئلتي، قائلةً: «وصلت سيارة الأجرة يا سعاد».

عندما رفعتُ ناظريّ، لاحظت أن والدتي تجمدت في مكانها. كانت تحدق بي والدموع تترقرق في عينيها الرماديتين. لم أعرف ما إذا كانت تبكي لأني ذكّرتها بمرحلة ما قبل عام 1948 في يافا أو لأنها مضطرة إلى مفارقة ابنتها الصغرى التي كانت توشك أن تعبر نهر الأردن (الذي أقسمت ألا تجتازه ما دام الاحتلال الإسرائيلي قائماً). لربما بكت للسببين معاً.

يا إلهي! كم أكون قاسية القلب أحياناً! كان علي أن أدرك أن توقيتي خاطئ. لكني كنت شديدة التوتر. قلت لها: «ماما، حان وقت الوداع». شعرتُ أني أفقد صوتي. تبادلنا القبلات. خرجت من الباب بأسرع ما يمكن. وفيما كنت أفكر في الالتفات إلى الخلف، جاءني صوتها المضطرب: «اتصلي بنمر، قريب والدك، وهو يصطحبك إلى المنزل».