يعالج كتاب أكسيل هافمان تطور الكتابة اللبنانية للتاريخ منذ أوساط القرن التاسع عشر حتى الوقت الحاضر، مسلطاً الضوء على الأعمال التاريخية التي وضعت بأقلام مؤلفين لبنانيي الأصل كانوا أو لا يزالون على أراضي الدولة اللبنانية الحديثة. يدور السؤال الأساسي حول العلاقة بين كتابة التاريخ والأيديولوجيا، أو التاريخ والهوية في سياق أهم تطورات العوامل التاريخية، والمناظرات والنزاعات بين التيارات الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية والفكرية (مثل الطائفية أو القومية أو العلمانية).

Ad

 إلى جانب دور التربية والعلوم، يحلل كتاب «التاريخ وكتابة التاريخ في لبنان خلال القرنين التاسع عشر والعشرين: الفهم الذاتي للتاريخ أشكاله ووظائفه» الكتابات التاريخية على اختلاف ميولها بشكل نسقي، ذلك من حيث المضمون والشكل. ويعطي هافمان أهمية خاصة للفهم الذاتي التاريخي داخل المجتمع اللبناني، ولمختلف الجماعات الطائفية، ولمسألة الوعي التاريخي القومي، ولصورة التاريخ في تواصله وتحوله في كتابة التاريخ اللبناني، وكيف بدا ذلك نتاجاً ومرآة للتاريخ اللبناني. تشمل مادة الكتاب التي تم البحث فيها كتابات علمية مطبوعة، فضلاً عن كتابات ذات طابع شعبوي، وجميعها تعود إلى المئة والخمسين سنة الماضية، كذلك تحيط بالمخطوطات التي أصدرها مؤرخون معاصرون ومؤلفون آخرون. إلى جانب مقابلات شخصية من المؤلف أجراها مع مؤرخين في بيروت إبان فترة الحرب الأهلية (1975 – 1990) من بينهم كمال الصليبي، أحمد بيضون، وجيه كوثراني، خالد زيادة، مسعود ضاهر، منير اسماعيل، فواز طرابلسي، وصفية سعادة.

الجمعية السرية

يتضمن الكتاب أربعة أقسام هي: الأسس النظرية لكتابة التاريخ، الشروط المحيطة بكتابة التاريخ في لبنان، تاريخ لبنان بمنظار مؤرخيه، واستنتاج وتقييم للكتابة اللبنانية للتاريخ بين الادعاء والحقيقة. كذلك يحوي موضوعات فرعية تناولت: أبعاد التاريخ، الموضوعية والانحياز، أشكال كتابة التاريخ ووظائفها، أسس التطور التاريخي، التيارات الأيديولوجية السياسية بين الطائفية والقومية والعلمانية، جوهر التربية والعلم والتعليم، المؤرخون غير المحترفين في أواخر العصر العثماني، بداية الكتابة الاحترافية للتاريخ في عصر الانتداب، كتابة التاريخ منذ الاستقلال حتى الحرب الأهلية، المؤرخون اللبنانيون تحت تأثير الحرب الأهلية، اتجاهات إعادة الهيكلة وإمكانات التأريخ بعد الحرب الأهلية وحظوظه.

اختار المؤلف مجموعة من المؤرّخين في كلّ حقبة قام بدراستها، وأعطى أهمية للجمعية السرية التي تأسست عام 1875، قوامها خمسة شبان مسيحيين ينتمون إلى نخبة مثقفة نشطت في كنف الكلية البروتستانتية (الجامعة الأميركية) مع فروعها في طرابلس وصيدا ودمشق ومبادرتها في بعث القومية العربية ونشرها إلى مساعيها في التحديث والإصلاح في الوسطين المسيحي والإسلامي، وقد صاغ تصوراتها شبلي الشميل وفرح أنطون، وهي تصورات بعيدة المدى في الدين والقومية والعلمانية. ويعتبر هافمان أن المؤرخ يوسف الدبس هو الممثل للصورة التاريخية للموارنة بامتياز بوصفه مؤرخاً وبسبب مؤلفاته في هذا المجال، مع ما في ذلك من تناقض غريب مع مسلكية السياسي الذي يعكس موقفاً ليبرالياً فعلياً ويتجاوز الطائفية إلى حد ما. أما الأب بولس نجيم (1880 1931) فكان أول من قدم حياته كاملة لبناء الترابطات التاريخية في لبنان والتي قادت بول جوبلان إلى إعادة رسم تاريخ الرقعة اللبنانية الصغيرة «كأمة صغيرة».

من الكتّاب والمؤرخين الذين يعتبر هافمان كتاباتهم بداية الكتابة الاحترافية للتاريخ في عصر الانتداب: زكي النقاش، عمر فروخ، فؤاد أفرام البستاني، أسد رستم، فيليب خوري، جواد بولس، محمد جميل بيهم، وفيليب حتي... إلى أن يصل إلى الاتجاهات التاريخية الناشئة بعد الحرب الأهلية، التي أعاد جزء منها المعركة المستدامة بين الخصوصية والعروبة، وأبرزهم: كمال الصليبي، وجيه كوثراني، أحمد بيضون، مسعود ضاهر، عباس أبو صالح، جان شرف وغيرهم من مؤرخين معاصرين. اعتمد الكاتب على الكرونولوجيا وعلى تحليل الكتابات التاريخية على اختلاف ميولها على نحو نسقي، في المضمون والتعاقب الزمني، ما أدّى إلى تسهيل عملية تصنيف المؤرخين اللبنانيين في المرحلة المدروسة، الممتدة إلى حوالى قرنين تقريباً.

الصراع على التاريخ

على خطى من سبقه في تحليل أعمال المؤرخين اللبنانيين، رأى المؤلف أن الكتابات ذات الطابع الطائفي تشكل السمة الغالبة فيها، وأن الدراسات ذات الأسلوب التبريري واللهجة الهجومية أحياناً تشكل معضلة خاصة. مرد ذلك إلى أن الطائفية في لبنان تشكل مرتكزاً أساسياً في صنع القرار، وطبعت كتابة تاريخه بصورة واضحة. لكن هافمان تجاوز استخدام الانتماء الطائفي للمؤرخ وتصريحاته المصبوغة وفقاً لهذا الانتماء كمعيار وحيد لتقييم أعماله «كما هي الحال إلى حد بعيد في دراسة أحمد بيضون: «الصراع على تاريخ لبنان»، فحلل عوامل أخرى من بينها الأصول الاجتماعية للمؤرخ، نوع الدراسة التي حصل عليها، والمحيط الاجتماعي الذي تنتمي إليه دراساته التاريخية. ونبه إلى أن في حال إغفال تلك العوامل بهدف الوصول إلى حكم تقييمي مناسب، يتعرض المؤرخون اللبنانيون الذين يسعون إلى الوصول إلى دراسة لاطائفية لتاريخ بلدهم إلى ظلم فادح. ولاحظ هافمان أنه «لا توجد، من منظور علم التاريخ، دراسة متماسكة حول كتابة التاريخ اللبناني الحديث. فحتى الآن لم يتم التطرق إلا إلى مجالات جزئية وعند بعض المؤرخين».

وحين تساءل: هل حقق المؤرخون اللبنانيون ما أخذوه على عاتقهم في كتابة التاريخ؟ أو هل ذلك قابل للتحقيق أصلاً؟ كان جوابه النفي». ففي معظم الحالات بدا لنا أن ثمة هوة بين الزعم والنتيجة، وعدم التوازن بين الموضوعية والانحياز». فتم الاستناد في آن إلى نماذج عربية مع التركيز على منهجية ابن خلدون بالدرجة الأولى، وإلى مؤرخين أوروبيين، وإلى تصورات ذاتية لبعض المؤرخين.

تربط خاتمة الكتاب ما تم تفصيله حول المقالات النظرية في كتابة التاريخ بأشكال الأعمال التاريخية التي جرى تحليلها وبمضامينها، أي أنه يصار إلى اختيار النظريات العامة من خلال أهميتها لأجل كتابة التاريخ اللبناني. هنا يثار طرح المشكلة. ألى أي مدى وبأية طريقة تتم تلبية المتطلبات التي يضعها المؤرخون أنفسهم في شأن كتابة التاريخ؟ يتعلق الأمر بإيجاد أجوبة على أسئلة تطاول أشكال الفهم التاريخي ووظائفه، وعلى الاستمرارية والتحول في كتابة التاريخ.

هافمان من مواليد عام 1949، حصل على شهادة الماجستير في الدراسات الإسلامية والإيرانية من جامعة برلين الحرة سنة 1975، والدكتوراه سنة 1983، وشهادة الأستاذية سنة 2001.