على مدى العامين الماضيين، سلطت الأسواق المالية الضوء على سلسلة من البلدان- اليونان وأيرلندا والبرتغال وإسبانيا وإيطاليا- فحولت كل منها إلى مركز زلزال مالي أوروبي يبدو بلا نهاية. ولكن الساسة كانوا يدركون دوماً أن جوهر المشروع الأوروبي يكمن في العلاقة فرنسا وألمانيا. تُرى هل أصبحت هذه العلاقة الآن في خطر؟

Ad

وهناك حجة سقوط أحجار الدومينو التي تشير إلى أن الأزمات التي تعانيها البلدان الواقعة على أطراف أوروبا سوف تخلف تأثيراً تراكمياً على القلب الفرنسي الألماني. فقد أصبحت فرنسا في أعقاب فقاعة العقارات وأسعار الأصول عُرضة لتركيبة من نفس مشاكل القطاع المصرفي والتمويل العام. والواقع أن الانتخابات الرئاسية الفرنسية أعطت صبغة سياسية للرابط بين أحجار الدومينو على أطراف أوروبا، وقلب أوروبا الفرنسي.

في حشده الانتخابي الأخير قبل الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، وقف نيكولا ساركوزي أمام لافتة تقول "فرانس فورت" (فرنسا القوية). وفي نظر أغلب الحضور فإن ساركوزي كان يقصد "فرنك فورت" (الفرنك الفرنسي القوي)- أي أن التعبير يتحول في النهاية إلى "فرانكفورت"، المركزي المالي الألماني الذي يستضيف مقر البنك المركزي الأوروبي.

والواقع أن خطاب ساركوزي عزز هذه الرسالة، فإعادة انتخاب الرئيس وحدها القادرة على إنقاذ العملة القوية التي ضمنت الثروات والدخول الفرنسية. وسوف يعمل اليسار على افتعال انهيار للعملة وتكالب على الأوراق المالية الفرنسية على نحو يجلب أزمة اليورو من اليونان أو إسبانيا أو إيطاليا إلى قلب العملية الأوروبية، أو علاقة فرنسا بألمانيا.

لقد أعادت الحملة الرئاسية الفرنسية فتح موضوع قديم في السياسة الفرنسية، فالساسة اليساريون ينظرون إلى أنفسهم باعتبارهم ضحايا للمؤامرات المالية. في عام 1924، قوبل التحالف بين الاشتراكيين ويسار الوسط تحت مسمى "اتحاد اليسار" بهروب الأموال وتكالب على استرداد الودائع بالفرنك الفرنسي، وهو ما رأى اليسار آنذاك أنه كان عملية نظمها ويسرها بنك فرنسا (البنك المركزي).

وفي عام 1936، عندما تحالف الشيوعيون مع الاشتراكيين في جبهة ليون بلوم الشعبية، وطالبوا بزيادة الأجور وخفض ساعات العمل، اندلعت أزمة فرنك أخرى، وفي غضون عامين كان يسار الوسط قد عاد إلى السلطة، ولكن في غضون ذلك، كان اليسار قد أمم البنك المركزي.

ثم جاءت الحلقة الأخيرة في هذه الدراما الطويلة مع فوز فرانسوا ميتران في عام 1981. وبعد توليه منصبه رئيساً لفرنسا، وعلى مدى العامين التاليين، أدار ميتران تجربة في الاقتصاد الاشتراكي كانت مصممة لخطب ود المؤيدين الشيوعيين. فتم تأميم البنوك وزيادة الأجور، الأمر الذي أدى إلى تكرر حالات هروب الودائع بالفرنك الفرنسي. وأرغمت الحكومة على فرض ضوابط صارمة على رأس المال، بما في ذلك فرض قيود على ما يستطيع المواطنون إنفاقه في الخارج كسياح.

وبعد عامين، وجد ميتران نفسه في مواجهة سؤال عصيب: هل ينبغي لفرنسا أن تستمر على مسار "الاشتراكية في بلد واحد"، أم أن مشروع التكامل الأوروبي يتطلب تحولاً عكسياً كاملا؟ بوصفه وزيراً للمالية، قام جاك ديلور المعتدل المحب لأوروبا بتنفيذ التحول العكسي الكامل الذي أعاد فرنسا إلى أوروبا والفرنك القوي (فرانكفورت).

والواقع أن أوجه التشابه بين الوقت الحاضر وعام 1981 وثيقة للغاية، ففي عام 1981، كان هناك إطار أوروبي لاستقرار العملة، أو النظام النقدي الأوروبي، الذي اعتبره ميتران مشروعاً شخصياً لمنافسه اليميني، الرئيس فاليري جيسكار ديستان. ولقد بدا من الواضح آنذاك في نظره الهجوم على العملة المستقرة كمشروع محافظ للإبقاء على أجور الطبقة العاملة منخفضة. وفي وسط حالة من الركود، بدا الأمر أيضاً وكأنه سبب البطالة في فرنسا.

في عام 2012، أصبحت مسألة إنقاذ اليورو مشخصة في هيئة رقصة تانجو بين ساركوزي والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وهو الثنائي الذي أطلق عليه من قبيل السخرية وصف "ماركوزي". فقد اتخذا القرارات الحاسمة، وأصرا على استقرار الموازنة و"الحزمة السداسية" التي يمقتها اليسار.

كما وضع كل من مرشح أقصى اليسار جان لوك ميلينشون ومرشحة جناح اليمين الشعبوي ماري لوبان اللغة الخطابية المناهضة للألمان في قلب حملتيهما. ولكن كذلك فعل مرشح التيار اليساري السائد فرانسوا هولاند، الذي يبدو الآن قريباً من الفوز بالانتخابات، وهو حريص على معارضة صرامة البنك المركزي الأوروبي وتقليديته بمرونة البنكين المركزيين البريطاني والأميركي- كناية عن استعداده لطباعة النقود. ويعزز حجته فيما يبدو انهيار الحكومة الهولندية نتيجة اعتراض الشعبوي خيرت فيلدرز على التقشف الذي فرضته ألمانيا، فضلاً عن قوة دعم لوبان في فرنسا.

كان دفع فرنسا إلى التحول العكسي على يد ميتران يتطلب تغييراً عميقاً للنهج الأوروبي، وكانت المفوضية الأوروبية تشعر بالانزعاج إزاء احتمالات رفض اليسار تحت قيادة ميتران للنظام النقدي الأوروبي. وكان من الضروري آنذاك القيام بأي تحرك لاجتذاب الاشتراكيين الفرنسيين، وكانت فرنسا في احتياج إلى الحصول على دور أعظم في مواجهة السياسة النقدية الألمانية.

ولقد روع هذا الألمان، وخاصة المسؤولين الأقوياء في البنك المركزي الألماني الذي يتخذ من فرانكفورت مقراً له، فتم إرسال مسؤول مفوض لمواجهة مسؤولي البنك المركزي، فأوضح أن الإدارة النقدية في ألمانيا كانت ناجحة للغاية في الكفاح من أجل الاستقرار، وكانت النتيجة أنها أصبحت عرضة للمخاطر السياسية.

لقد ساهم منعطف فرنسا الحاد في توليد مجموعة من الحجج التي من شأنها أن تبرر إنشاء اليورو. وتطلب فرض التقشف الألماني إيجاد آلية أوروبية لتخفيف وطأته، ولجعله مقبولاً على الصعيد السياسي. وكان لزاماً على الجانب الفرنسي في الاتفاق أن يفكر في القواعد المتعلقة بالميزانية. كما نشأ سقف الـ3% من الناتج المحلي الإجمالي لعجز الموازنة، الذي تم إقراره بشكل تعسفي بعض الشيء في تسعينيات القرن العشرين، من الصدمات الناتجة عن تجربة ميتران. فكانت نسبة الثلاثة في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الرقم الذي حسبه ديلور باعتباره الحد الأقصى للعجز المتوافق مع الاستقرار المالي في ظل ظروف عام 1983. ثم تحول هذا الرقم ببساطة إلى قاعدة أوروبية عامة في التسعينيات.

لقد أصبحت الأسواق المالية اليوم أكثر عدوانية مما كانت عليه في عام 1981. ولا يوجد أي احتمال لتوافر الحيز لتجربة تمتد عامين. وسوف تكون النتيجة فرض ضغوط مكثفة للغاية في المطالبة بتصميم سريع للمؤسسات الأوروبية، وما ينطوي عليه هذا من خطر افتقار النتيجة إلى المصداقية، فبدلاً من الدوران للخلف قد نصل إلى طريق مسدود.

* هارولد جيمس | Harold James ، أستاذ التاريخ والعلاقات الدولية في جامعة برينستون، وأستاذ التاريخ بمعهد الجامعة الأوروبية في فلورنسا، ومؤلف كتاب "خلق وتدير القيمة: دورة العولمة".

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»