بين صانع القطعة الفنية، سينمائية أو مسرحية، وبين الرقابة علاقة لا تخلو من تربص مُزمن ونفور متبادل، وفي أحيان كثيرة يلجأ الطرف الأول إلى افتعال أزمة عابرة لإلهاء الرقباء، وصرف نظرها عن المناطق الساخنة «أيديولوجياً»، والبؤر المشتعلة سياسياً، في قطعته الفنية، وغالباً ما ينجح!

Ad

بهذا المنطق نفسه، انشغل المجتمع المصري بشيوخه ونخبته وصفوته ورعيته بأزمة أغنية فيلم «عبده موتة»، وفات عليهم، جميعاً، الالتفات إلى الكوارث الفكرية والبصرية، التي يذخر بها «عبده موتة» طوال ساعة ونصف الساعة هي مدة أحداثه على الشاشة!

في صُحبة موسيقى لقيطة لا يُعرف مصدرها، ولم تُشر العناوين إلى صاحبها، لكنها تكرس لأجواء الإثارة والمغامرة التي ستتسم بها الأحداث، يُطل علينا «عبده موتة» (محمد رمضان) الذي يُفترض أن نعامله بوصفه بطلاً (!) وهو يقطع خلوته غير الشرعية مع مراهقة شابة، ويفر بجلده هرباً من مطاردة البوليس، وفي حوزته «طربة حشيش»، وبين أسطح العشش، واختراق العشوائيات والشوارع، في مشاهد تُجبرك على أن تتذكر بداية فيلم «إبراهيم الأبيض»، مع فارق الإمكانات الإنتاجية والحرفية الإخراجية المتفاوتة، يتم القبض على «عبده موتة»، ولأن «البطل» لا ينبغي أن يغيب طويلاً عن الأحداث التي صُنعت لأجله يتم الإفراج عن «موتة» في قضية الاتجار بالمخدرات، بعد ثلاثة أشهر فقط، ربما لعدم كفاية الأدلة.

ومع أول خطوة تطأ فيها قدماه الحارة، تُصبح الفرصة لبدء مسلسل الرقص والغناء الشعبي، الذي تتواصل حلقاته طوال أحداث الفيلم، ويستمر الصخب والضجيج والضوضاء والتلوث السمعي والبصري، ويترك المخرج الشاشة للغناء الهابط والرقص المبتذل، زهاء خمس دقائق لأكثر من مرة، من دون أن يتدخل لقطع الأغنية والرقصة أو يكتفي بهذا القدر من الترخص!

المُدهش أن المؤلف محمد سمير مبروك اجتهد كثيراً في كتابة سيناريو لا يخلو من إحكام، وأحداث لا تفتقر إلى الإثارة، كما برع في صوغ حوار يتسم بالجدة والطرافة، لكنه استسلم، في ما يبدو، لضغوط المنتج الذي طالبه بالإفراط في تقديم «التوابل» و{المشهيات»، وألا يتجاهل الرسالة الأخلاقية. فما كان منه سوى أن حرص على تقديم فاصل من الخطابة والعظة، والتبشير، بركاكة وسطحية، بأن «الجزاء من جنس العمل»، وأنه «كما تدين تدان»؛ فتاجر المخدرات يُقتل رمياً بالرصاص، والراقصة التي أهملت ابنها لتتفرغ لغواية «موتة» وتاجر المخدرات تحترق «في النار» (لاحظ نوع العقاب) ورفيقا البطل يدفعان ثمن خيانة الصداقة، بينما شقيقة البطل التي تُفرط في جسدها تتزوج «عبيط الحارة»!

 بالطبع كان العقاب «الأخلاقي» الأشد والأكثر قسوة، من نصيب  البطل «عبده موتة»، الذي حُكم عليه بالإعدام لكن المؤلف، ومن ورائه المنتج بالطبع، يجدانها فرصة لتلقين الجمهور درساً آخر، في ما يشبه العظة الأخيرة؛ حيث يُبدى البطل ندمه عن الخطايا والآثام التي ارتكبها طوال 85 دقيقة من زمن الفيلم في خمس دقائق فقط، ولو كان بالإمكان إنقاذه من الإعدام ليصل الفيلم إلى «النهاية السعيدة» لفعلوها من دون ذرة تفكير أو تأنيب للضمير!

في هذه الأجواء الصاخبة والشخصيات المُغيبة، يحاول فريق العمل بسذاجة إضفاء أهمية سياسية على الفيلم، بينما القبح يتمثل في كل لقطة ومشهد، جملة حوار، وأداء مفتعل، رغم الجهد الكبير الذي بذله محمد رمضان لتجسيد شخصية «عبده موتة»، واللياقة البدنية العالية التي تمتع بها، وتصميمه على تعويض إخفاقه في فيلم «الألماني»، لكن الفيلم افتقد «الحالة» التي تدعوك للتوحد أو التعاطف معها،وبدا وكأنه «فُرجة» على عالم سُفلي عشوائي حقير ومنحط، ولا بد من اجتثاثه، رغم محاولات مدير التصوير محمد شفيق للغوص بالكاميرا في أحشاء هذا العالم، واجتهاد الستايلست ريهام عاصم في رسم ملامح واقعية لأبنائه، وإضفاء مصداقية على شخصياتهم الدرامية، مهمة نجح فيها أيضاً فنان المونتاج عمرو عاصم في بضعة مشاهد ودفع المشاهد للتثاؤب في مشاهد أخرى!

في الأحوال كافة، نجح «عبده موتة»، وهنا مكمن الخطورة، في أن يدفع الجمهور إلى التصفيق بحرارة، وتشف، وحماسة مرضية، لحظة ذبح صديق البطل الخائن للصداقة، وفرح الجميع بالإيرادات التي حققها الفيلم ولكن أحداً لم يفكر في مصير جيل وجد متعته في «العنف» وتلذذ بإراقة «الدماء»، وراق في عيون أبنائه عالم «البلطجة» و{الإجرام»؛ فالقبح في الفيلم ممنهج ومدروس بدقة، والضمير غائب، بل «موضة قديمة»، ومن ثم يُصبح من السخف القول إننا حيال «ضحايا» أجرم المجتمع في حقهم، فأصبحوا جديرين بأن يثأروا لأنفسهم، ويحيلوا المجتمع إلى قطعة من الجحيم، وهي الحجة الساذجة، التي روج لها أصحاب الفيلم وبعض النقاد، ولن يصدقها سوى البلهاء... والساديين!