ذروة المجد وإرهاصات النهاية(9)

Ad

بعد أن أصبح محمد بن أبي عامر رجل قصر الخلافة الأول بقرطبة، عمل على التخلص من كل مناوئ لسلطته، وبدأت البلاد تشعر بامتداد سلطان ابن أبي عامر في مرافق الدولة، وعقد سلسلة من التحالفات مكنته من السيطرة على البلاد إلى حين، مؤسسا بذلك الدولة العامرية التي أحكمت سيطرتها على الخلافة الأموية وجعلتها تابعة له، لتشهد بلاد الأندلس نهاية مجدها وعظمتها، وتبدأ في الأفول والانهيار بعد وفاة المنصور بن أبي عامر، لتستقبل الأندلس أيامها الصعبة التي استمرت لقرون قبل أن ينفد الزيت من فتلة الشمعة وينطفئ النور.

ينتمي محمد بن عبدالله بن عامر بن أبي عامر إلى أسرة ذات جذور عربية يمنية، وفدت إلى الأندلس إبان الفتح الإسلامي، وارتبطت بالدولة الأموية منذ تأسيسها على يد الأمير عبدالرحمن الداخل، لذلك نشأ ابن أبي عامر بالقرب من قصور الخلافة، وبعد أن أتم تعليمه الأولي، انخرط في سلك القضاء، وعندما بدأ نجمه يلمع بلغ خبره السيدة صبح، الجارية البشكنسية وزوجة الخليفة الحكم المفضلة وأم ولي العهد، التي أعجبت بذكائه وكفاءته فاستخدمته لإدارة أملاكها الخاصة، قبل أن تدفع به للارتقاء في سلم الوظائف الحكومية، فطلبت من زوجها الخليفة الحكم المستنصر أن يوليه دار السكة (دار ضرب العملة)، ثم ولي قضاء كورة (ولاية) إلبيرة، لينتقل بعدها إلى قضاء إشبيلية، مشرفا على أموال الزكاة والمواريث والشرطة بها، ثم عاد إلى قرطبة ليتولى وزارة المواريث والشرطة، بالإضافة الى وكالته للأمير هشام في أملاكه، ولقب بـ"فتى الدولة".

وفي عصر الخليفة هشام المؤيد زادت قوة التحالف بين ابن أبي عامر وأم الخليفة صبح، وأصبح ابن أبي عامر المتحدث الرسمي باسم بيت الخلافة، لكن ابن أبي عامر لم يكن يعمل من أجل البيت الأموي بقدر ما كان يعمل لصالحه ولمجده الشخصي، فقد سعى للانفراد بالحكم والسلطة، فنفذ مؤامرات للتخلص من منافسيه، بدأها بالتخلص من فرقة الجنود الصقالبة، الحرس الخاص بالخليفة، وأتى بفرقة جديدة عرفت بـ"الفتيان العامرية" نسبة إليه، وبدأ في عقد تحالف مع أكبر قواد الجيش الأمير غالب قائد الثغور الأندلسية في الشمال وصاحب حصن سالم، وتزوج ابن أبي عامر من ابنة القائد غالب، ليأمن شره ويستخدمه في تنفيذ أغراضه، للتخلص من الحاجب جعفر صاحب اليد العليا في قرطبة، وهو ما تم في شعبان سنة 367هـ، عندما صدر قرار من الخليفة الطفل بإقالة الحاجب جعفر المصحفي، وإيداعه السجن، وتفرغ بعدها ابن أبي عامر بعد أن أصبح صاحب السلطة العليا في البلاد لـ"رؤساء الدولة ممن عانده وزاحمه، فمال عليهم، وحطهم عن مراتبهم، وقتل بعضهم ببعض، كل ذلك عن أمر هشام (الخليفة) وتوقيعه، حتى استأصل شأفتهم، ومزق جموعهم على حد وصف ابن خلدون.

بعدها تفرغ ابن أبي عامر لمطاردة كل من يخشى بأسه من بني أمية، خوفا من أن يجتمع منافسوه على أحد من بيت الخلافة ليقود ثورة ضد نفوذه المتنامي، فسحق كل من يصلح منهم للولاية، ومزقهم في البلاد شر ممزق، تحت شعار حماية الخليفة هشام المؤيد.

بعد أن استوثق ابن أبي عامر من قوته ناهض صهره القائد غالب، الذي كان أكبر قواد الجيش وأكثرهم خبرة، عمل ابن أبي عامر على إنشاء فرق خاصة جديدة لا تعرف ولاءً إلا له، من جنود المغرب والصقالبة، وبهذا الجيش الجديد نازل ابن أبي عامر، القائد غالب في موقعة فاصلة بالقرب من حصن شنت بجنت في سنة 371هـ/981م، وانتهت بهزيمة القائد غالب ووفاته.

الدولة العامرية

بوفاة غالب، أطلقت يد ابن أبي عامر في البلاد، وأصبح رجل الدولة الأول بلا منازع، وليعطي نفسه مظهر الحاكم المستقل بدأ في سنة 368هـ/978م في بناء مدينة ملكية جديدة عرفت بالزاهرة إزاء مدينة الخلافة الزهراء، وأنشأ بها قصرا ملكيا فخما، ومسجدا، ونقل إليها دواوين الدولة، وأقام حولها سورا ضخما تحسبا لأي هجوم من قبل أي من معارضيه، وما أكثرهم، وأضحت الزاهرة في زهاء عامين المدينة التي تدار منها البلاد ولم يعد للزهراء من ذكر، غير أنها مقر الخليفة هشام المؤيد المحجور عليه من قبل ابن أبي عامر، الذي عمل على محاصرة قصر الخلافة في الزهراء فأنشأ سورا وخندقا حول القصر وأغلق أبوابه ومنع الدخول إلى الخليفة المحاصر إلا بإذن شخصي منه، وبدأ منذ هذه اللحظة يتحرك باعتباره سيد البلاد بلا منازع ولم يكن للخليفة الشرعي هشام المؤيد من الحكم إلا الاسم.

انفرد ابن أبي عامر بالحكم بعد أن صار حاجبا للخليفة، وهي وظيفة تساوي رئاسة الوزراء في عصرنا الحالي، واتخذ لقب المنصور، ودعي له على المنابر بعد الخليفة مباشرة، ونقش اسمه على العملة، وفي سنة 386هـ/996م، اتخذ المنصور لقب الملك الكريم، وبذلك ظهرت من رحم الخلافة الأموية دولة جديدة دعيت بالدولة العامرية.

كان المنصور بن أبي عامر يعلم علم اليقين، أن سلطته غير شرعية في نظر معاصريه من أهل الأندلس، وأن الحال إذا بقى على ما هو عليه فإن ثورة عنيفة قد تقوم ضده بزعامة أي من أبناء البيت الأموي إن لم يكن الخليفة ذاته، لذلك وضع خطة ترمي إلى تدعيم سلطته ودعم صورته بين الأندلسيين.

فعمل على استمرار حالة الاستقرار التي سادت في عصر عبد الرحمن الناصر والحكم المستنصر، وحقق نجاحا كبيرا في هذا الصدد، وأثبت أنه رجل دولة قدير، فكان حريصا على استتباب الأمن والسهر على شؤون الرعية، حتى قال يوما: "حارس الدنيا لا ينام إذا نامت الرعية، ولو استوفيت نومي، لما كان في دور هذا البلد عين نائمة".

وكجزء من مخططه عمد إلى إجراء انقلاب عميق في بنية الجيش فبعد أن كان قائما على أساس القبلية العربية، عمد المنصور بن أبي عامر إلى تحطيم هذا النظام بتوزيع أبناء القبيلة الواحدة على فرق الجيش المختلفة، واستقدم البربر من بلاد المغرب وجندهم هم والصقالبة في الجيش، كذلك عمد لجعل أرزاق الجنود مرتبات شهرية بعد أن كانت قائمة على الإقطاع، وهي تنظيمات جعلت الجيش خاضعا لابن أبي عامر يأتمر بأمره.

50 غزوة

على أن أكبر إنجازات المنصور كانت حروبه ضد الممالك الإسبانية النصرانية في الشمال، ويعدد المؤرخون غزوات المنصور وإنجازاته الحربية، ويعدونها بأكثر من خمسين غزوة، وهي الغزوات التي أجملها ابن خلدون قائلا: "ورد الغزو بنفسه إلى دار الحرب، فغزا اثنتين وخمسين غزوة في سائر أيام ملكه، ولم ينكسر له فيها راية ولا فل له جيش، ولا أصيب له بعث ولا هلكت سرية"، ويرى العلامة محمد عبد الله عنان أن المنصور اتبع استراتيجية جديدة في معاملته للممالك الإسبان كان هدفها أن يسحقها تماما، وأن يقضي على استقلالها القومي وأن يخضعها جميعا إلى سلطة قرطبة.

ونظم المنصور الهجمات على الممالك النصرانية في شكل صوائف وشوات (بعثات حربية صيفية وشتوية)، وكان من عادة المنصور أن يجمع ما علق بوجهه من غبار هذه المعارك، فكان الخدم يأخذونه عنه بالمناديل، حتى اجتمعت لديه صرة ضخمة، عهد بنشرها في حنوطه، وفي الوقت ذاته كان يحمل معه كفنه من غزل بناته.

وتعد غزوة المنصور الثامنة والأربعون أهم غزواته على الإطلاق، فقد توجه فيها صوب مدينة شنت ياقب (القديس يعقوب) التي تقع في أقصى شمال إسبانيا وهي المدينة الدينية لنصارى الإسبان وتحتل عندهم في المكانة الدينية المرتبة الثانية مباشرة بعد القدس، وكانت رمزا للقومية الإسبانية الوليدة، لذلك خرج المنصور في قواته برا وبحرا، واخترق المسلمون بلاد العدو، حتى بلغوا مدينة شنت ياقب، التي تركها أهلها تواجه مصيرها بعد أن تيقنوا من عدم قدرتهم الدفاع عن قدس أقداسهم، فأمر المنصور بتدمير المدينة وكنيستها الكبرى، لكنه حافظ على مقام القديس يعقوب، ووكل به من حفظه، ثم غادر المدينة، وقام بأعمال حربية في المناطق المتاخمة للمدينة، ليعود بعدها إلى قرطبة حاملا معه الأسرى والغنائم، ومن بينها أبواب الكنيسة ونواقيسها، وقد استخدمت الأبواب في تسقيف الجزء الذي زاده في جامع قرطبة، وهي الزيادة الأخيرة في تاريخ جامع قرطبة، واستخدمت النواقيس ثريات له.

وأسفرت أعمال المنصور الحربية عن امتداد حدود الأندلس شمالا على حساب النصارى، واقترب بحدود الأندلس بوضعها القديم أيام الفتح الإسلامي، واعترف به ملوك الإسبان سيدا أعلى عليهم جميعا، بل سعى شانجة غرسية، ملك نبرة، لعقد مصاهرة مع المنصور تكللت بزواج الأخير من بنت شانجة، التي أسلمت وأنجبت للمنصور ولده عبد الرحمن المعروف بشنجول.

وبعيدا عن نشاطه الحربي كان "المنصور بن أبي عامر" عالما، محبا للعلماء، يكثر مجالستهم ويناظرهم، وقد أكثر العلماء ذكر مناقبه، وصنفوا لها تصانيف كثيرة، وكان حسن الاعتقاد والسيرة، عادلاً، وكانت أيامه أعياداً لنضارتها، وأمن الناس فيها.

على كل حال واصلت الأندلس عهد عظمتها تحت حكم المنصور الذي بدأ مع الخليفة عبدالرحمن الناصر، فقد استطاع المنصور أن يثبت أنه رجل دولة قدير، لكن المشكلة أن نفوذه جاء على حساب الخلافة الأموية نفسها، فلم يعد الخليفة المؤيد إلا صورة تملك ولا تحكم، وهو ما سيؤثر سلبا على مستقبل الخلافة الأموية والأندلس جميعا.

تُوفي المنصور في سنة 392هـ/1002، وهو عائد من الغزو، ودفن بصحن قصره في مدينة سالم، بعد أن حكم الأندلس لمدة سبعة وعشرين عاما تقريبا، ونقش على قبره بيتان من الشعر، هما:

آثـاره تنبيـك عـن أخـبـاره حتى كأنك بالعيون تراه

تالله لا يأتي الزمـان بمثلـه أبدا ولا يحمي الثغور سواه

أما المصادر النصرانية الإسبانية، فقد وردت في حولياتها هذه العبارة "في سنة 1002م مات المنصور وألحد في جهنم".

خلف المظفر عبدالملك، والده المنصور في حكم البلاد، فقاد سفينة الأندلس وفق النهج الذي اخطته والده، واستطاع تنفيذ عدد من الغزوات الناجحة ضد الممالك الإسبانية، وحمل ملوكها على دفع الجزية لقرطبة، معترفين بسلطانه عليهم، وواصل رعاية العلماء والأدباء والشعراء.

وكان وصول ملك شاب لم يتجاوز الثامنة والعشرين من عمره كالمظفر بشرى سارة لأهل الأندلس بعهد كعهد أبيه، يسوده السلام الداخلي يدعمه هيبة بين الأمم المجاورة في الخارج، إلا أن وفاته المبكرة بعد حكم قصير لم يتجاوز السبعة أعوام في سنة 399هـ/1008م، كان نهاية لهذه البشرى وخاتمة قرن كامل من العظمة الأندلسية، وبداية فترة من أعجب فترات دولة الإسلام في الأندلس.

الحرب الأهلية

كان من المفترض أن تقضي خلافة المهدي على الفوضى في البلاد على اعتبار أن السلطة في البلاد عادت من جديد في قبضة واحدة شرعية، لكن هذا كان على السطح فقط، أما في الحقيقة فقد أصبح عرش قرطبة مطمعاً لكل طامع، فمن ناحية فكر بعض أبناء البيت الأموي في الانقضاض على المهدي وتكرار تجربته من جديد، بينما طمع زعماء البربر والصقالبة في ممارسة نفس الدور الذي قام به المنصور بن أبي عامر.

بدأ المهدي عهده بالتقرب للعرب والإساءة للبربر، خصوصا زعيمهم زاوي بن زيري، وانتقلت هذه المعاملة من الخليفة المهدي للعامة الذين كانوا ملوا من سطوة البربر أيام الدولة العامرية، لذلك هاجموا عددا من دور البربر ونهبوها، في وقت عمل المهدي على تصفية الجنود الصقالبة المنتمين للدولة العامرية فنفاهم إلى شرق الأندلس.

في هذه اللحظة تجمعت عوامل كثيرة للسخط من المهدي وحكمه، استثمرها شاب أموي آخر هو سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبدالرحمن الناصر، الذي تزعم البربر، وخرج معهم من قرطبة، ومضى بهم إلى الثغور، حيث اتصل بقومس قشتالة، واتفق معه على أن يعينه بالزاد والعتاد والرجال، مقابل أن يتنازل له في حال ظفره عن بعض مدن الثغور، فكانت هذه الاتفاقية بداية سياسة تعيسة سيعتمدها كل الطامعين في حكم بلاد الأندلس وستؤدي إلى ضياعها في النهاية.

بويع سليمان بن الحكم بالخلافة تحت اسم المستعين بالله، وقاد قواته من البربر وقوات حلفائه من الإسبان صوب قرطبة، وبالقرب منها، استطاع أن يحقق النصر على قوات الخليفة المهدي سنة 400هـ/1009م، ودخلت قوات البربر قرطبة لينتقموا من أهلها بقتل كل من وجدوه في طريقهم، وعاثوا في شوارع المدينة فسادا.

تبادل المستعين والمهدي الانتصار بمعاونة ملك قشتالة، الذي تنازل له المهدي عن مئتي حصن من الحصون الشمالية، التي كانت قد افتتحها في عصور الخلافة، فازدادت مساحة مملكة قشتالة إلى الضعف، إلا أن قشتالة لم تقدم الدعم العسكري المطلوب، فكانت النتيجة أن هزم الخليفة المهدي مجددا عند وادي آره، جنوب الأندلس، فاضطر أن يعود إلى قرطبة ليغلق أبوابها بعد أن حفر حولها خندقا، في وقت حاصر المستعين والبربر المدينة، عازمين على دخولها والفتك بمن بها.

وفي سنة 403هـ/1012م اقتحمت قوات المستعين والبربر قرطبة، وعاثوا فيها فسادًا وقتلا واغتصابا للنساء، وعاد بعدها المستعين بالله إلى الحكم بعد مقتل الخليفة المهدي، في وقت تفككت وحدة البلاد وتقاسمتها القوى المتنازعة، فقد أعطى الخليفة المستعين أنصاره من البربر الولايات الجنوبية من الأندلس وأطلق أيديهم فيها، بينما فر العامريون إلى شرق الأندلس في منطقة بلنسية وما حولها.

لم يهنأ المستعين بالخلافة كثيرا، فقد قرر أنصاره من البربر الانقلاب عليه وتنصيب علي بن حمود الإدريسي الحسني الهاشمي، باعتباره أحد حلفاء البربر في المغرب والأندلس منذ سنين، وفي سنة 407هـ/1016م، وقعت المعركة بين علي بن حمود، وبين سليمان المستعين بالله، انتصر فيها بن حمود، وتولى الحكم في قرطبة بعد أن قتل سليمان وأهل بيته، وتسمى بالخليفة الناصر بالله.

بذلك تكون الخلافة خرجت من بيت بني أمية لأول مرة منذ تأسيسها في الأندلس، إلى بيت بني حمود الهاشميين، ولم يكن إعلان خلافة بني حمود إلا إعلانا لاستمرار حالة الفوضى بل وتجذرها في الأراضي الأندلسية، فخلال تسع سنوات تبادل ستة خلفاء عرش قرطبة، ثلاثة منهم من بني أمية هم المرتضى والمستظهر والمستكفي، وثلاثة منهم من بني حمود هم الناصر والقاسم والمعتلي.

ثم سادت الفوضى عاصمة البلاد، وتعلقت أنظار حكام المدن والأقاليم بنتيجة الصراع المحتدم داخل قرطبة، الذي لم ينه مرحلته الأولى في عام 417هـ/1026م، إلا ثورة أهالي قرطبة على الخليفة الحمودي المعتلي، وبايعوا هشام بن محمد بن عبد الله بن عبد الرحمن الناصر الأموي، وتلقب بالمعتد بالله.

كان هشام المعتد في حصن البونت عندما علم بمبايعة أهالي قرطبة له، لكنه فضل التمهل ولم يذهب لمباشرة مهام منصبه كخليفة، فلم يجد أهالي قرطبة مفرا من تشكيل حكومة من كبار رجال قرطبة، تولى رئاستها قاضي قرطبة الوزير جهور بن محمد بن جهور، وكان يشتهر بالتقوى والورع ورجاحة العقل.

فتولى بمشورة كبار رجال الدولة تسيير أمور قرطبة طوال ثلاث سنوات، حتى دخول الخليفة المعتد هشام الأموي قرطبة في سنة 420هـ/1029م.

لم يحل وجود الخليفة المعتد المشاكل المتراكمة بل ساعد في تفاقمها، فلم يحسن اختيار مساعديه، فاشتعلت الثورة من جديد وتقرر خلع المعتد بالله وإبعاده هو وأهله خارج قرطبة.

وفي محاولة لحل هذه الأزمة التي تمر بها البلاد، ووقف هذه الموجة من الصراعات العارمة، اجتمع العلماء وعلية القوم من أهل قرطبة، وذلك في سنة 422هـ/1031م، ووجدوا أنه لم يعد هناك من بني أمية من يصلح لإدارة الأمور، ولم يكن اسم أي من رجال بني حمود مطروحا لعداء أهالي قرطبة لبني حمود وحلفائهم من البربر، فقرروا إلغاء الخلافة وإبطال رسومها، ونشأت على أطلالها حكومة شبه جمهورية دعيت بـ"حكومة الجماعة" وليّ رئاستها أبو الحزم جهور بن جهور القاضي.

وبدأت الأندلس بالفعل تدخل عصر الفرقة والتشرذم، وانفصلت المدن والأقاليم تباعا عن سلطة قرطبة، ليبدأ ما يسمى بعهد دويلات الطوائف، أو عهد ملوك الطوائف، التي بلغ عددها اثنتين وعشرين دولة، وبدأت الأندلس مراحل الهبوط والانحدار.

سقوط الدولة العامرية

وليّ الحكم بعد وفاة عبدالملك بن المنصور، أخوه الناصر عبد الرحمن المعروف أكثر بـ"شنجول"، الذي كان نموذجا للشاب الفاسد الطائش المغرور، كانت سياساته مضرب الأمثال في الطيش والخروج عن أصول الملك في الأندلس، فقد أجبر الخليفة الأموي المؤيد على إعلانه ولي عهده، ووضع أحاديث نبوية تبرر نقل الخلافة من قريش إلى قحطان، بالإضافة لاشتهاره بشرب الخمر ومصاحبة المفسدين.

فبدأت المؤمرات تحاك ضد شنجول، وتزعم هذه المؤامرات أنصار الحزب الأموي الذين هالهم ما ألحق المنصور بن أبي عامر وولديه بالخليفة المؤيد من حجر وإهمال، وتزعم جميع الغاضبين من البيت العامري، محمد بن هشام بن عبد الجبار بن عبد الرحمن الناصر.

وانتظر أنصار بني أمية حتى خرج عبد الرحمن شنجول على رأس قواته للقيام بغزوة في شمال البلاد، فهاجم محمد بن هشام الأموي قرطبة ودخل الزاهرة مقر العامرية وأحرقها بعد أن هدم قصورها، وأرغم الخليفة المؤيد هشام على التنازل عن الحكم، وتولى هو الخلافة متلقبا بالمهدي، معلنا انتصار الحزب الاموي وعودته لمباشرة الحكم من جديد.

في تلك الأثناء، تعرضت حملة عبد الرحمن شنجول في شمال البلاد لعدة مصاعب بسبب الطقس السيئ، فاضطر للعودة إلى الأندلس، ليصله خبر الانقلاب الأموي وهو بالقرب من طليطلة، ونصحه مولاه واضح صاحب الثغر بأن يبقى في مكانه، لكنه أصر على التقدم صوب قرطبة لإخضاع الثوار وإخماد الفتنة، لكنه ما كاد يقترب من قرطبة حتى انفض من حوله معظم جيشه من البربر، خوفا على أولادهم في المدينة من أي عمل انتقامي من قبل الثوار، وأضحى عبد الرحمن شنجول في قلة من أصحابه، وسرعان ما ظفر به أعداؤه عند دير بضواحي قرطبة، وقتل في الثالث من رجب سنة 399هـ/3مارس 1009م، ولم يكن مضى على توليه زمام الحكم إلا ثلاثة أشهر، وبوفاته وحرق الزاهرة انتهت دولة بني عامر التي استمرت ما يزيد على 35 عاما.