الطابور الخامس!
منذ الخمسينيات حتى السبعينيات كانت هذه التهمة موجهة إلى التيار الليبرالي واعتباره الطابور الخامس للمد الناصري الذي يسعى إلى الإطاحة بنظام الحكم، وخلال الثمانينيات وحتى الغزو العراقي ألبست هذه الطاقية على رؤوس الشيعة باعتبارهم الطابور الخامس الإيراني، واليوم انتقلت التهمة لأبناء القبائل وباتوا يتهمون بأنهم الطابور القطري والسعودي.
الحكومة والسلطة والأسرة مصطلحات دستورية مختلفة في المركز القانوني والمسؤولية السياسية ولكل منها اختصاصاته، ولكن العرف العام والممارسة العملية على امتداد العهد الدستوري جعلتها متداخلة إلى حد كبير، بحيث يكون الانطباع السائد بمجرد ذكر أي مصطلح من هذه المصطلحات أنها ترمز إلى الأسرة الحاكمة. ومن هذا المنطلق فقد يجندّ مثل هذا الفهم العرفي لمآرب سياسية خصوصاً في ظل الأزمات والاختلافات في المواقف العامة، ومنها ما نمر به في الحالة الراهنة، فأي نقد للحكومة أو السلطة التنفيذية يفسر بأنه انتقاد للأسرة، وبالتبع فإن أي مطالبات سياسية أو ديمقراطية تأول بأنها تستهدف أسرة الحكم والقفز على صلاحياتها ومكانتها السياسية والدستورية. وهذا الفهم العرفي إضافة إلى التحريض المستمر والنفخ الإعلامي والتعبئة النفسية في الديوانيات، وحتى عبر نقل رسائل موجهة ومنظمة إلى المراجع السياسية لا شك أنها تسكب مزيداً من الزيت على النار وتخلط الأوراق، وبالنتيجة تساهم في زعزعة الثقة بين الناس، ووصل الأمر إلى حد خطير ومرعب بحيث صار الحديث يدور حول قلب نظام الحكم، والأغرب من ذلك الزعم أن ذلك يتم من خلال أجندة خارجية بل من دول خليجية! وهذا السيناريو التحريضي الفتنوي ليس بجديد على الإطلاق، ولكن مشكلتنا بالعقليات التي تطبل وتصفق لها، وأصبحت هذه التهمة كالطاقية التي تلبس على رؤوس البعض بين فترة وأخرى، وفي كل مرة على من يأخذ زمام المبادرة في مطالبات دستورية وإصلاحات سياسية. فمنذ الخمسينيات حتى السبعينيات كانت هذه التهمة موجهة إلى التيار الليبرالي واعتباره الطابور الخامس للمد الناصري الذي يسعى إلى الإطاحة بنظام الحكم، وخلال الثمانينيات وحتى الغزو العراقي ألبست هذه الطاقية على رؤوس الشيعة باعتبارهم الطابور الخامس الإيراني، واليوم انتقلت التهمة لأبناء القبائل وباتوا يتهمون بأنهم الطابور القطري والسعودي. ولو قارنا طبيعة المطالبات منذ الخمسينيات إلى اليوم لوجدناها لا تتعدى إطار الدستور بل هي مكررة ومحصورة في المزيد من المكاسب الشعبية والديمقراطية، بل أصبحت اليوم من الضروريات التي يجب الحوار والتعاطي معها بشكل جاد ومسؤول لا سيما أننا في زمن الانفتاح العالمي، فلم تبق على وجه الكرة الأرضية من الدول التي لا تتمتع بالديمقراطية الحقيقية إلا القليل جداً، وتكاد تكون محصورة في منطقتنا العربية والخليجية تحديداً، ومثل هذا الزحف لا يمكن أن يتوقف، وبدلاً من الاستمرار في سياسة "ربط العصائص" والتفنن في لائحة الاتهامات لنتحاور ولنتناقش ولنتفق على القواسم المشتركة لما فيها مصلحة البلد وتطويره والوصول إلى المعاني الحقيقية لدولة القانون والدستور والمؤسسات، واستيعاب المرحلة القادمة بثقافتها وحراكها وتحدياتها وطموحاتها!