خرجت رينيه الحايك من مفهوم الرواية كسلسلة من أحداث الخيال المفبركة، أو تلك المحبوكة التي تستجيب للتقنيات الفنية المتعارف عليها. أعمالها تنطلق مباشرة إلى فضاء الحقيقة الإنسانية الأصيلة حيث لا فبركة ولا تحايل على لمّ الأحداث. وإنما هي الحياة المحضة منفلتة بمسارات متوازية أو دائرية دون ضرورة الالتقاء في نهاية، ودون التحايل على لمّ شعث ذلك الكائن البشري المفتوحة حياته ومشاعره وذكرياته على الاحتمالات.

Ad

شخوص قصصها هم أنا وأنت ومن حولنا، أبطال عاديون يقضون ساعات أيامهم في الغدو والرواح وفي ما اعتادوه من روتين الأعمال اليومية والحوارات الدارجة والذكريات المتلكئة، لا يجترحون بطولة ولا يتنكبون الخوارق. وهم رغم هذه الصفات الدانية يمتلكون جاذبية آسرة تجعلنا ملتصقين بكل ما يندّ عنهم من حركة أو حوار أو استعادة لذكرى، كأنهم صنو أنفسنا، أو لكأنهم ضميرنا الذي ما كان يمتلك موهبة البوح ولا يتقن أبجديات الحكي، حتى رأيناه أمامنا يكتب ما لا نستطيعه أو ما لا نتقنه!

ليس لرينيه الحايك لغة أطول قامة من الدارج والمُتداوَل في الحياة اليومية. فلغتها لا تتجاوز سياج ما نقوله لبعضنا وما يحوم في صدورنا من خواطر دانية. وهي بهذه اللغة الإنسانية المتواضعة تصنع لنا متكأ راحة وألفة وتأخذنا معها حيث تريد. أما الأحداث فليس هناك أحداث في الحقيقة، وإنما هي النفس التي تنوس بضعفها أو ارتباكها أو هشاشتها إزاء ما هي متورطة فيه من أطر حياتها المعيشة، وملابسات ظروفها التي تأتي كما تأتي. فمن يا تُرى يستطيع أن يعيش حياة غير حياته؟ أو يغيّر ما يحدث له؟!

تلك هي الثيمة التي تشتغل عليها رينيه الحايك في معظم رواياتها، لكأنها تؤمن بأن التسليم بأمر الحياة الناقصة والمرتبكة والمموهة بالخيبة والعطب هو سيد الفضائل النفسية. وهو تسليم جميل وحكيم يدعو إلى التأمل والركون إلى أعمق ما في الإنسان، ذلك الإنسان الذي غالباً ما يعود من معاركه وزهوه وطمعه بمآثر الدنيا إلى التسليم أخيراً بأقل القليل دون جلبة!

بدأت معرفتي برينيه الحايك لأول مرة من خلال مجموعتها القصصية (بورتريه للنسيان) فملكت قلبي بقدرتها العجيبة على استقراء الإيقاع النفسي للحياة الاعتيادية، بكل تداعياتها وروتينها وهمومها اليومية الصغيرة، وقدرة هذا الإيقاع المطرد على رسم وتشكيل ملامح الشخصيات الإنسانية. فالإنسان الباهت أو الحالم أو المستسلم أو المتوتر أو المجتهد ما هو إلا نتاج لذلك الروتين الحياتي وعجلة في آلته الدائرة. ثم تتابع شغفي برينيه الحايك التي لم تخيّب أملي قط ، فأتبعت (بورتريه للنسيان) بروايات: (صلاة للعائلة) و(حياة قصيرة) ثم (شتاء مهجور) و(البئر والسماء) مؤخراً. وكلها أعمال نالت اهتمام الكتابة حولها، كما حازت (صلاة للعائلة) فرصة الترشّح لجائزة البوكر عام 2011م.

وكعادتي حين أصيّف في لبنان لابد من التوجه لشارع الحمرا العريق وزيارة مكتبة (أنطوان) للتزوّد بمؤنة العام من الكتب، فكان أن أضفت إلى ما سبق لرينيه الحايك روايات (العابر) و(بيروت 2002) و(بلاد الثلوج)، ولم يعد ينقصني من أعمالها غير (أيام باريس). حيوات مفعمة برائحة الإنسان وحميميته ونبضه القريب، كلها بانتظاري حين أتهيأ وأنصت وأحتشد بإيقاعها الأليف.

وهذه فقرة من (بورتريه للنسيان):

"تحمل مسبحتها وتبدأ بصلاة تمتد لساعات، كأن تلك التمتمة تطرد أفكار المساء. لم يكن زوجها يحب جلستها الطويلة للصلاة، بل كان يفتعل شجاراً كلما رآها تنزوي. رغم اعتراضه اليومي لم يكن ما يعوقها عن صلاتها هذه حتى في أشد أيام القصف.

المساء يحمله معه، يجلسه بالقرب منها، نحيلاً، طويلاً، شاحب اللون ببيجامته المقلمة، وكأسه الوحيدة التي يشربها ليلاً. تسمع سعاله ووقع خطواته الخفيفة في الرواق.

أحياناً تنسى، تستيقظ ليلاً تتفقده وتخال إنها تراه مستقيماً في جلسته فوق السرير، تهمّ بسؤاله عن سبب أرقه هذا، فيطالعها سرير مرتب بارد بالقرب من سريرها.

تستقيم في جلستها، تسند رأسها إلى خشب السرير البارد وتشرع بالصلاة ...".