لعل التاريخ السياسي في الكويت لم يشهد حالة من الوضاعة الأخلاقية في الممارسة والخطاب مثلما شهدته قاعة «عبدالله السالم» في استجواب وزير الداخلية هذا الأسبوع، نعم قد يكون الخطاب البرلماني بلغ مستوى الحضيض السياسي منذ مجلس 2008 ومن بعده مجلس 2009 بشكل أوسع، ولكن أن ترمى الأدوات الدستورية في مزبلة التاريخ، فهذا عهد جديد سطره اليوم بعض نواب «آخر زمن».

Ad

فاستجواب نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الداخلية على قضية في منتهى الحساسية والخطورة وتتعلق بأصل المواطنة وسيادة الدولة، التي يفترض فيها أعلى مستويات المسؤولية والجدية، تحول إلى نموذج من المفاهيم المخجلة، وقد أبدعت بعض مانشيتات الصحافة الكويتية في وصف هذا الاستجواب بعد انتهائه بـ»الأتفه» و»المسخرة» و»الصفر».

وقد يكون الاستجواب الأخير من جهة استمرار لتداعيات حالة الاحتقان بين مكونات المجتمع الكويتي المختلفة، ومجرد فرصة أخرى للمعارك الكلامية الوهمية تحت عنوان «سيبني وأسيبك» لننجح معاً، وحلبة جيدة للعروض البطولية وصنع النجومية، حيث تبين دخول نواب المراكز الأخيرة في الانتخابات الأخيرة على الخط لاصطناع الهوشات في محاولة رخيصة لإثبات الوجود طالما أن الصوت العالي والشتم أصبحا من أهم معايير الترشيح والنجاح بتفوق!

ولكن مثل هذه السلوكيات تحولت إلى أسطوانة مشروخة ومشاهد مسرحية متكررة بل ومملة، ولعل التخريجة الأخيرة في جلسة الثلاثاء الماضي أصابت الكثيرين من الناس حتى ممن صوتوا لنواب «الهواش» بالاشمئزاز، لأن المسرحية خرجت من دائرة «الأكشن» إلى مستوى أدنى، وباتت معروفة كلمات «جب وكل... وانثبر وهدني عليه»، بل ومتى تقال وممن ولمن تقال، ويبدو أنه لا جديد في الآفق مستقبلاً، ولذلك انتهت المسرحية مبكراً وبدأت مطالبات الحل تعلو.

ومن أهم ما لفت انتباهي في استجواب وزير الداخلية، هو أن قضية المزدوجين التي أقامت الدنيا و»اعفستها» على مدار خمس سنوات وكانت شعار البعض على مدى حملات انتخابية عدة وادعاء وجود أدلة قاصمة للظهر تناقش في دقيقتين فقط، وبأسلوب شائن ومهين بالذات لكل من تجشم عناء الانتظار في طوابير التصويت تشوقاً لهذا الوعيد وهذا الاستجواب تحديداً.

ويذكرني مشهد الاستجواب بكل ما يفترض أن يحمل من دلالات الرقابة البرلمانية وفلسفة الأدوات الدستورية وهيبتها وحالة الاستفزاز السياسي والإعلامي لجلساته، بالحملة الانتخابية الأولى للمرشح الذي كان يفترش الأرض بـ»جنطة فلوس» وفي حالة طبيعية جداً في مقر إدارة الانتخابات كمحاولة لتصوير الديمقراطية بأنها لعبة شوارع، ومجرد «مسخرة أولاد»، ولذلك لا يستغرب أن يحوّل أمثال هؤلاء منصة الاستجواب إلى «مقصة» واستخفاف ليس بفلسفة الديمقراطية التي تحكم اليوم غالبية الكرة الأرضية، بل بعقول الآلاف من الناس الذين رأوا أنهم يمارسون حقهم السياسي لمقاصد يتوهمون أنها تعكس طموحاتهم.

ويبدو أن هذا هو أحد الطرق الجديدة لضرب الديمقراطية والحياة الدستورية من الداخل بعدما فشلت كل محاولات قبرها وتعطيلها على مدى الخمسين سنة الماضية.