فجر يوم جديد: حلم عزيز انتظرناه طويلاً
ابن موت!
عرفت المخرج الإنسان عاطف الطيب (1947 - 1995) نهاية الثمانينيات، كانت المناسبة تحقيق صحافي عن ضابط الشرطة في السينما المصرية، نُشر وقتها في مجلة «فن» اللبنانية، التي أغلقت في ظروف غامضة، وبعدها كان لي شرف الاقتراب منه أثناء تصوير أفلامه؛ ففي قصر محمد علي في المنيل التقيته وهو يصور مشاهد الجد جعفر في «قلب الليل»، وفي إحدى شقق حي الظاهر في القاهرة عايشت تصوير مشهد مكتب المحامي أحمد زكي ومساعده المنتصر بالله في فيلم «ضد الحكومة»، وفي شقة أخرى تابعته وهو يصور شقة الأب حسن حسني في فيلم «دماء على الأسفلت»، وعلى مقربة من كورنيش النيل في منطقة إمبابة عشت «ليلة ساخنة» امتدت إلى الساعات الأولى من الصباح، كذلك شاهدته وهو في ثورة غضب عارمة بسبب ما سماه استهتار بطلة فيلم «جبر الخواطر» في مشهد كان يُفترض فيه أن يصنع مطراً افتراضياً على مقربة من وزارة الزراعة في الدقي! بعدها تعددت اللقاءات بيننا، وتوثقت، بسبب لقب «الطيب»، الذي نحمله معاً، ولفت انتباهه فقال لي: «أنا من سوهاج وأنت من أسوان، وهناك ضريح للشيخ «الطيب» في الأقصر تعال نبحث في جذوره عله يكون جدنا المشترك»، وزرته في شقته الأولى المتواضعة قبل أن ينتقل إلى شقته الجديدة الفاخرة، التي أجريت فيها حواراً مطولاً أصر خلاله على التقاط بعض الصور الفوتوغرافية مع «لوحات الكلاكيت»، التي اكتشفت أنه يحتفظ بها فور الانتهاء من تصوير أفلامه، ويختار لها مكاناً بارزاً على الحائط. لم يكن عاطف الطيب، كسمة أبناء الجنوب، ممن يحرصون على حضور الحفلات العامة، وكان ظهوره معدوماً في السهرات الخاصة، بسبب انغماسه الشديد في عمله، لدرجة أنه كان يعمل لمدة 18 ساعة في اليوم، وعلى رغم هذا لم يحدث أن هرب منه ممثل أو مدير تصوير، بل كان الكل يتسابق للتعاون معه، ويستمتع كثيراً بالاقتراب منه، لأدبه الجم، ودماثة خلقه، وهدوئه الشديد، فضلاً عن النظام الكبير الذي كان يسيطر على كل خطوات العمل، بسبب تخصيصه وقتاً طويلاً للتحضير قبل دوران الكاميرا، وإلمامه بالتفاصيل كافة أثناء التصوير، بالإضافة إلى شخصيته القوية والصارمة التي جعلت منه قائداً بمعنى الكلمة. هذا الدأب الملحوظ، والعمل المتواصل، والجدية البالغة التي لا مكان فيها لمزاح أو لهو، كانت سبباً في أن يُصاب «الطيب» بإرهاق ضرب قلبه الضعيف، وأصابه بوهن خطير، ما دفع الأطباء إلى نصحه بإجراء جراحة عاجلة ولكنه لم يمتثل ولم يستسلم، وظل على عناده وإصراره إلى اللحظة التي انتهى فيها من تصوير فيلمه الأخير «جبر الخواطر». حينها، وقبل استكمال عمليات «المونتاج» و{الميكساج»، استجاب ورضخ مرغماً، واستسلم لأنامل الأطباء في الجراحة التي أجريت له في مستشفى مصر الدولي، وتوفي على أثرها ليصبح يوم الثالث والعشرين من يونيو من كل عام بمثابة «اليوم الأسود» على تلامذته ومحبيه وكل من توسم في الشاب أن يصنع مستقبلاً عريضاً للسينما المصرية... والعربية. رحل عاطف الطيب، وهو في الثامنة والأربعين من عمره، بعد أن أنجز ما يقرب من 21 فيلماً، وهو رصيد كبير للغاية بالنظر إلى الحياة القصيرة التي عاشها، ومسيرته الفنية التي بدأت متأخرة للغاية؛ فالفتى الذي ولد في 26 ديسمبر من عام 1947، كان عليه أن يلتحق، فور تخرجه في المعهد العالي للسينما وحصوله على دبلوم الإخراج، بالجيش لأداء الخدمة العسكرية، وكأبناء جيله لم يخرج من الخدمة إلا بعد انتصار حرب أكتوبر من عام 1973. «ابن موت» هو الوصف الذي يُطلقه أبناء الجنوب على الطفل الذي تشم أمه في عرقه رائحة الموت، وتظل في انتظار أن يباغته الموت في كل لحظة، وهو ما ينطبق كثيراً على عاطف الطيب، الذي لو قدر له أن يعيش عمراً أطول من العقود الأربعة التي عاشها، لكان صاحب شأن عظيم ومكانة متفردة، وهو كذلك بالفعل، فقد أدرك أنه «ابن موت»، ولم يضع لحظة من عمره في رفاهية لم يعرفها، وترف لم يعشه، وفي فترة أداء الخدمة العسكرية أنجز فيلماً قصيراً، واستغل الفترة نفسها في تنمية ثقافته وصقل وعيه الفني والفكري، وحالما أنهى الخدمة انخرط في الحياة العامة، ولم يتغطرس أو يغتر بنفسه وموهبته وبدأ السلم من أوله بالعمل كمساعد إخراج لكثير من القامات السينمائية الكبيرة، وعندما أيقن أن الوقت قد حان ليقدم نفسه أغلقت أبواب المنتجين في وجهه مما اضطره إلى أن يبدأ بفيلم «الغيرة القاتلة»، الذي لم يعول عليه كثيراً، لكنه كان بمثابة «بطاقة التعارف» التي كشفت حجم موهبته، وحددت موقعه كمبدع، وعندما جاءته الفرصة، وأنجز «سواق الأتوبيس» تشبث بها، وحدد هويته الفنية وتوجهه السياسي وانتماءه الطبقي. غيب الموت «الطيب الجميل»، لكن أحداً لم ينس سينماه الثورية التي لم تخل من انحياز للفقراء الذين لم يخف يوماً انتماءه إليهم، ومع كل فيلم، وليس فقط يوم ميلاده أو رحيله، نتذكر «سواق الأتوبيس» الذي «كشف المستور» و{البريء» الذي قاد «كتيبة الإعدام»... «ضد الحكومة».