-1 نقرأ دائماً في التاريخ البعيد والقريب أن الفساد المالي والسياسي كان من أهم الأسباب التي أدت الى سقوط العهود، ولعل الربيع العربي الذي بدأ يزهر زهوره منذ ديسمبر 2010 إلى اليوم كانت نتيجة استشراء هذا الفساد الذي كان– وما زال– يسري في شرايين الأمة، نتيجة لعهود الماضي الفاسدة، ومنها العهدان المملوكي والعثماني اللذان حكما العالم العربي أكثر من خمسة قرون متتالية (1390-1918) (حُكمُ المماليك البحرية والبرجية 1390-1517م)، و(حُكمُ العثمانيين 1517-1918م). وجاءت بعدها – بعد الاستقلال – أنظمة الحكم الوطنية العسكرية والمدنية، التي كانت لا تقل عن العهدين السابقين: المملوكي والعثماني فساداً ونهباً.
-2 فقد قرأنا في التاريخ العربي الحديث، أن الفساد الإداري وصل حداً كانت معه الإدارة العثمانية ممثلةً بالسلاطين تُرسل للولاة السارقين الهدايا والعطايا حتى يُمعنوا في السرقة، والنهب، والظلم، فقد أرسل السلطان عثمان الثالث (1754- 1757م) إلى والي دمشق المنكوب أسعد باشا العظم، هدايا وفرماناً، فيه تفخيم كثير، ومدَّ له حبل النهب والسلب، فشُغل الباشا ببناء قصره العظيم، ولم يلتفت إلى رعاياه، وتركته الدولة يجمع الأموال ويبني القصور، ثم أمرت بقتله خنقاً في الحمام، ومصادرة أمواله، وأملاكه. كما يقول لنا المؤرخ أحمد عزت عبدالكريم في كتابه ("مقدمة حوادث دمشق اليومية"، ص 48).والسؤال هنا هو:- لماذا كانت الإدارة العثمانية تترك ولاتها ينهبون ويسرقون، ثم تأتي هي لتسرق وتنهب، ما نهبوه، وما سرقوه؟- ولماذا لم تحُلْ الإدارة العثمانية بين ولاتها وبين السرقة منذ البداية، وبالنظام الصارم، والحساب الدقيق، والمراقبة الدائمة، والقانون العادل؟والجواب على ذلك هو:أن الإدارة العثمانية الفاسدة، كانت تريد نهب الناس بطريق غير مباشر، في الوقت الذي تعاقب الولاة على هذا النحو لكي تقول للناس كم هي نظيفة وشريفة، والولاة هم السارقون وهم الناهبون، في حين أن الإدارة العثمانية هي الناهبة وهي السارقة. وفي هذه الحالة كان الوالي يخرج بسواد الوجه، ويخسر حياته، وماله، وأهله، كما حصل لأسعد باشا العظم، وتخرج الدولة ببياض الوجه، وهي السارقة الأخيرة، والناهبة الحقيقية.-3 والأدلة على ذلك كثيرة وتملأ التاريخ العثماني، ففي عام 1744م، ورد من "الدولة العلية"، خط شريف إلى القبجي (رسول السلطان) الذي جاء لضبط أموال سليمان باشا العظم والي الشام (1733-1738م)، فجمع أعيان الشام، وقرأ عليهم "الفرمان"، ومضمونه الاستيلاء على أموال الباشا بأمر من الباب العالي، وأن تُعذب النساء والرجال بلا معارض حتى يقروا بالمال، وحفروا في دار الباشا، فوجدوا أربع "زلع" ذهب، فيها 16 ألف "ذهبية". وأمر القبجي بإحضار نساء الباشا وحريمه، وأخذ جميع ما عندهم من ذهب، وفضة، ومتاع، وحلي، وألبسة، وجميع ما تقتنيه النساء. كما يروي لنا المؤرخ أحمد البديري في كتابه ("حوادث دمشق اليومية"، ص 127-128).-4 ويقول البديري في كتابه أيضاً: كان فتحي الدفتردار، رئيس المالية والمشرف على حسابات الولاية، هو الذي وشى بسليمان باشا العظم، فاستدعاه السلطان العثماني إلى الآستانة بعد أن شكاه الناس، ورموه بالفساد، ولكنه ذهب إلى الآستانة، وعاد، دون أن يلحقه أذى بسبب ما بذل في الآستانة من المال، فقد كان فتحي الدفتردار محسوباً على الآغا الخصي المشرف على حريم السلطان، وكان له نفوذ قوي في بلاط السلطان. وعندما طلب السلطان محمود الأول (1730-1754م) فتحي الدفتردار للحساب والعذاب، ألبسوا شخصاً آخر زيه، وأدخلوه على السلطان على اعتبار أنه فتحي الدفتردار، وبعد الحساب أمر السلطان بقتل (السنّيد)، ونجا فتحي الدفتردار بماله، ورشوته (ص 129-130) .-5 ويتابع البديري فضائح العهد العثماني، فيروي لنا أن العثمانيين فعلوا كذلك بأسعد باشا العظم، بعد أن قتلوه مخنوقاً في الحمام. فجاء قبجي (مرسول السلطان) وختم سراياه، وضبط ماله، وختم بيوت جميع اتباعه، وأعوانه، وضبط مالهم، ورفعهم إلى القلعة، وأُخرجت من سرايا الباشا الدفائن العظيمة، والكنوز، والمجوهرات، والأمتعة النفيسة، التي كانت مدفونة في الأرض، والحيطان، والأحواض. وكانت لا تقدر بمال (ص، 258).-6 وتروي لنا المؤرخة السورية ليلى الصباغ، في كتابها (الجاليات الأوروبية في بلاد الشام في العهد العثماني) من أن سرقة الولاة ونهبهم، لم تقتصر على أبناء الشام، بل تعدى ذلك إلى سرقة التجار الأجانب، الذين كانوا يمارسون التجارة بين بلاد الشام وأوروبا. فولاة الشام هم الذين أدخلوا في قاموس التجارة العالمية كلمة "البَلْص"، أو "السَلْبَطَة"، أو "الأتاوة" كما هي عند المصريين، أو ما يُسمى بالفرنسية Avanies، وهي كلمة تعني أخذ مال بدون وجه حق. وكان "البَلْص"، في قاموس باشوات الشام، يعني مقدار المال الذي يطلبه الباشا من التجار الأوروبيين، ويلزمهم به، متذرعاً بحجج وأسباب واهية. وكان التجار الأوروبيون يذهبون إلى قنصلهم، ويشكون الباشا. فيذهب القنصل إلى الباشا، ويهدده بتقديم شكوى للباب العالي، إلا أن كثيراً من الباشوات، كانوا لا يكترثون لهذا التهديد، لعلاقتهم الوثيقة بالصدر الأعظم. والباشوات الذين كانت لهم علاقة وثيقة بالباب العالي، هم من كانوا يضاعفون كميات أموال "البَلْص" أضعافاً مضاعفة. وعندما يفلح السفير أو القنصل الأجنبي في الشام في إيصال شكوى رعاياه إلى الباب العالي، فإن عليه الانتظار طويلاً حتى يأتيه الرد من الآستانة. ويُضطر السفير لكي يأتيه الرد إلى توزيع الرشا والعطايا والهبات على الديوان السلطاني. ولكن، حتى لو صدر أمر السلطان برد ما انتُهب وإعادة ما سُرق، فان تنفيذ هذا الأمر كان من الصعوبة بمكان. لذا فقد أمعن الولاة في بلاد الشام في عمليات "البَلْص" كيفما شاؤوا، لأنهم كانوا يعلمون تمام العلم أنهم لن يعاقَبوا، ولن يحاسَبوا. (ج1، ص 352- 353). وهذا ما جرى ويجري حتى الآن، في أنحاء متفرقة من العالم العربي، الذي نأمل من "الربيع العربي" أن يخفف منه، أو يقضي عليه!* كاتب أردني
مقالات
الفساد وراء سقوط العهود في كل الأزمنة!
07-11-2012