من فوائد الفيسبوك بالنسبة إلي قياس ردة فعل الزملاء الذين يقتسمون معي ردود الفعل على كل حدث مهم على الساحة العربية، وبحكم الاغتراب يقتسم هذه الصفحة مجموعة من الزملاء الأكاديميين المهاجرين بتخصصات مختلفة تتفاوت بين العلوم البحتة والعلوم الإنسانية، وكما يختلفون في جنسياتهم الإقليمية وديانتهم الإسلامية والمسيحية إلا أنهم يتوحدون في ثقافتهم العربية، ويقتسمون الهموم العربية، وهم ينظرون من بعيد، نوعاً ما، إلى ما يجري في أوطانهم في هذا المخاض العسير الذي نتمنى جميعاً ألا يكون كالجبل الذي تمخض فولد فأراً.

Ad

لاحظت أن الأغلبية من هؤلاء الأصدقاء، ومنهم أساتذة جامعيون وتقنيون، ذكوراً وإناثاً، يركزون على القشور التي ستؤول إليها نتائج الربيع العربي، وهي نتائج دون مخادعة للنفس تصب في مصلحة التيار الديني، لا في مصلحة التيار التنويري. وهم هنا يطرحون قضية الحرية وهي قضية مفصلية ومحورية لكنهم يحصرونها، للأسف، في نطاقها الضيق، ويختصرونها في قضية الملبس، وأحياناً الفن بمفهومه السطحي المقرون بمسلسل تلفزيوني أو رقصة أو أغنية.

العدسة التي ينظر إليها هؤلاء الأصدقاء، رغم مكانتهم العلمية، هي عدسة تسمح لنا بالنظر إلى الصورة الأقرب، وليس بانوراما عامة للمشهد القادم. نعم هي قضية حرية لكن اختصارها في جزء من الثقافة يمثله الملبس أو الفن يجعلنا ندرك أن هؤلاء الأصدقاء ومثلهم كثر هم المشكلة أو نتاج للمشكلة. هم نتاج الثقافة الهشة التي حصرت كل مشاكلنا وتطلعاتنا نحو الحرية بمقاس فستان المرأة وطول كعبها وأجزاء الجسد المسموح برؤيتها منها للآخر القريب والغريب. هم محصلة الجدل الذي حاول التيار الديني التركيز عليه، ليقسم الناس إلى قسمين متناقضين: ملتزم ومنحل. وبكل تأكيد كسب الإخوان في المقارنة دون أن ينتبه الجميع إلى لعبة السياسة في كواليس هذا التقسيم.

الذي لم ينتبه إليه الأصدقاء، وكثر مثلهم، هو الصراع الطويل والمرير بين التيار التنويري والتيار الديني منذ بداية النهضة العربية. وهو صراع في التعاطي مع الثورة الصناعية والفكرية في العالم الغربي، وموقفنا المتردي منها طوال القرن الماضي، وفشلنا في مواكبة ركبها ونجاحنا في تهجير عقولنا الفكرية والعلمية إلى مصدر هذه الحضارة بدلاً من التعامل معها لما فيه تطور بلداننا. يستطيع القارئ الاستدلال على ذلك ببحث بسيط عبر الإنترنت عن عدد الفائزين بجائزة نوبل لأفرع العلوم في إسرائيل، وليس اليهود في العالم، ومقارنتها برصيدنا منها. وأذكر هنا مشكلة فنية كانت تعانيها شركة نورتل العملاقة في كندا، فتعاقدت مع شركة إسرائيلية لحلها. أرسلت الشركة بعد توقيع العقد رجلاً واحداً وجهازاً واحداً ليحل المشكلة في زمن قياسي وسط ذهول جهابذة "نورتل".

الذي علينا أن نخشى منه هو أن تزداد ردتنا الفكرية والعلمية، فبعد استيلاء السلطات الدكتاتورية على مقدرات بلداننا المحورية في مصر وسورية والعراق، وتحويلها إلى ثكنات عسكرية وإرسال بعثات خارجية لا يعود مبتعثوها المميزون إلى بلدانهم، سيأتي دور سلطة تهتم بالماضي وموروثه  وتتجاهل حرية الإبداع والفكر لتخلق لنا جيلاً عاشقاً لهذا الماضي بجوانبه السلبية، جيلاً يعمل على بناء حواجز أخرى تفصلنا عن الحضارة العالمية تحت رداء موروثنا الديني كما يفهمه.

علينا أن نتقدم بالاعتذار إلى جميع مفكرينا التنويريين في العالم العربي الذين خسروا الصراع أمام التيار الديني، بسبب جهلنا وتخلفنا، ونحن نرى اليوم أن حريتنا التي كانت تحت العسكر يتقاسمها اليوم رجل الدين والعسكر. يتولى الأول مسؤولية التربية والتعليم والإعلام، ويتولى الثاني أمننا ودفاعنا. أما النتائج فسترونها قريباً.