لو عملنا إحصائية لأكثر عبارة ترددها المعارضة لوجدنا أنها "لا للعبث بالدستور"!

Ad

والعبارة موجهة إلى السلطة باعتبار أنها تقوم بأفعال ليس لها سند دستوري أو صلاحيات لم يقررها الدستور، يحدث هذا في كل أزمة سياسية، وفي كل مرة يتحدث الخبراء الدستوريون ليخبرونا أن كل الأمور دستورياً تمام التمام! وأن كل ما في الأمر أن السلطة تستغل صلاحياتها الدستورية بما يصب في مصلحتها، وقتما تريد وحين تضطر لذلك، يسندها في ذلك عدد من المستشارين الدستوريين يضعونها في موقف سليم قانونياً ودستورياً، أي أنها تلعب سياسة بشكل صحيح مستخدمة صلاحياتها القانونية والدستورية في وقت يكتفي فيه خصومها بالصراخ ومحاولة شحن الشارع عاطفياً دون سند قانوني أو دستوري!

والغريب أن من يرددون "لا للعبث بالدستور" لم يقرؤوا دستورهم جيداً، ولذلك، هم "مغترون" به كثيراً ويحسبونه كدساتير الدول العريقة في الديمقراطية، وواقع الأمر خلاف ذلك، فرغم أنه يتفوق على كل الدساتير العربية ويمنحنا أفضلية "ديمقراطية" على كل الشعوب العربية فإنه يمثل الحد الأدنى منها، مع ذلك، يبقى مقبولاً ومعقولاً في ظل الظروف المحيطة بنشأته، فقد كان نقلة نوعية في منطقة تعيش على حكم الفرد المطلق أو "المشيخات" التي تجعل الدولة قبيلة كبيرة تحتكم بأمر شيخها وما يقرره في مصلحتها، فجاء الدستور الكويتي وسطا بين هذا وذاك، مانحاً حق التمثيل الشعبي للمواطنين مع صلاحيات واسعة للحاكم.  والذين استدلوا على السيادة المطلقة للشعب وأحقيته في المشاركة بالحكم بالعبارة الواردة في المادة (6) من الدستور "الأمة مصدر السلطات جميعاً" لم يتمعنوا في بقية المواد التي تتناقض معها لدرجة تجعل كلمة "الأمة" هنا مبهمة وغير مفهومة!  

فالدستور الذي أعطى للوزراء حق التصويت منحهم سلطة تشريعية دون أن ينتخبهم الشعب، والحكومة التي يمثلونها تعين من قبل الأمير، فكيف تكون الأمة مصدر السلطات وهي لا تشرع قانوناً إلا بأصوات وزراء معينين بأمر أميري؟!

أما الصلاحيات الممنوحة لسمو الأمير دستورياً، فمنها نستدل تماماً على الخطأ الذي وقع فيه البعض لمعنى "الأمة مصدر السلطات جميعا"، فالمواد (51 و52 و53) على التوالي تقول "السلطة التشريعية يتولاها الأمير ومجلس الأمة"، "السلطة التنفيذية يتولاها الأمير ومجلس الوزراء والوزراء"، "السلطة القضائية تتولاها المحاكم باسم الأمير"، أي أن الأمير يتولى السلطات الثلاثة بل ويهيمن عليها كما في المادة (56) "يعين الأمير رئيس مجلس الوزراء بعد المشاورات التقليدية ويعفيه من منصبه كما يعين الوزراء ويعفيهم من مناصبهم"، والمادة (65) "للأمير حق اقتراح القوانين وحق التصديق عليها وإصدارها"، والمادة (71) "إذا حدث فيما بين أدوار انعقاد مجلس الأمة أو في فترة حله ما يوجب الإسراع في اتخاذ تدابير لا تحتمل التأخير جاز للأمير أن يصدر في شأنها مراسيم تكون لها قوة القانون" والمادة (75) "للأمير أن يعفو بمرسوم عن العقوبة أو أن يخفضها" والمادة (79) "لا يصدر قانون إلا إذا أقره مجلس الأمة وصدق عليه الأمير" والمادة ( 107) "للأمير أن يحل مجلس الأمة" والمادة (174) "للأمير... حق اقتراح تنقيح هذا الدستور بتعديل أو حذف حكم أو أكثر من أحكامه، أو إضافة أحكام جديدة إليه" والمادة (175) "الأحكام الخاصة بالنظام الأميري للكويت.... المنصوص عليها في هذا الدستور لا يجوز اقتراح تنقيحها".

 نحن إذن أمام دستور يمنح سمو الأمير سلطات واسعة بما يجعله حقا "أبوالسلطات" جميعاً، والذين اعترضوا على المرسوم الأميري الأخير، وقالوا قبل ذلك لذرية مبارك "لكم الإمارة ولنا الإدارة" لم يدركوا أن الحكم هو الحكومة، ولا حكم أبدا بلا حكومة، وسمو الأمير يمارس صلاحياته عبر وزرائه فيها، وهو من بيده حل الحكومة، وكذلك حل مجلس الأمة المختار من قبل الشعب.

هذا هو دستورنا، وهو ما رضي به الآباء المؤسسون وتوافقوا به مع أسرة الحكم، وسط بين الحكم البرلماني والرئاسي، وهو يمثل الديمقراطية النسبية لا الكاملة، والذين يدافعون عن الدستور اليوم لا يدركون أنه الخصم الحقيقي لرغباتهم وأهوائهم، وأن ما يقومون به من اعتراض هو اعتراض على ما جاء فيه، لذلك تراهم في تناقض دائم، يرفعون راية "إلا الدستور" ثم يدوسون في بطنه بعد دقائق!

والأولى أن يكونوا صرحاء مع أنفسهم قبل أن يكونوا صرحاء مع الآخرين، وأن يطالبوا بدستور جديد يلبي مطالبهم الجديدة، إما هذا، وإما أن يقبلوا به على علّاته، كما قبلنا به وارتضيناه منذ خمسين عاماً، فما الجديد الذي استجد حتى يملؤوا الأرض ضجيجاً وصراخاً واحتجاجاً؟!