النقاد في مصر نوعان؛ أولهما لا يفوت مناسبة من دون أن يُظهر كراهيته الشديدة للمناصب، ويراها نوعاً من «الطوق الذهبي» الذي يُكبل حريته ويجعل منه «موظفاً» أو «أداة» في إيدي «أولي الأمر»، بينما يتظاهر النوع الثاني، في مقالاته وحواراته ولقاءاته، بأنه زاهد في المناصب ولا يطيق الانضمام إلى اللجان، ومع أول محادثة هاتفية أو حتى إيماءة يفهم منها أن «الوزير» أمر بوضع اسمه في إحدى اللجان التي ستنظر في شأن مصنف فني أثار أزمة مجتمعية يهرع ويهرول، وغالباً ما يكون أول من يضع توقيعه على البيان الذي يُصادر المصنف أو ينكل به بحجة الحفاظ على أمن الوطن وسلامته، أو حماية المجتمع من الأخطار التي تهدد وحدته الوطنية.

Ad

هنا يُصبح «الرقيب»، ويا للمفارقة، أكثر رحمة بالمصنف الفني ممن يُطلقون على أنفسهم «النقاد» و{المثقفين»، وفي قول آخر «المبدعين»، وهو ما حدث بالضبط في الأزمة الأخيرة التي فجرها فيلم «عبده موتة»، بسبب أغنية تعامل معها «الرقباء» بحسن نية، والحال نفسها بالنسبة إلى طاقم الفيلم المكون من المنتج أحمد السبكي والمخرج إسماعيل فاروق، فالرقابة شاهدته مرتين، ولم تجد فيه ما يعيب أو يمنع عرضه فأجازته، ورغم هذا استيقظ الجميع على «كابوس مُروع»، عقب اتهام أغنية في الفيلم بالإساءة لآل البيت.

المثير للدهشة أن لجنة ضمت: الناقدة خيرية البشلاوي والكاتب يوسف القعيد ود. عبد الستار فتحي القائم بأعمال مدير الرقابة على المصنفات الفنية شاهدت الفيلم، ورأت أنه بعيدٌ عن الاتهامات كافة التي وجهت إليه، لكن لجنة أخرى تم تشكيلها بواسطة نقيب المهن السينمائية مسعد فودة ضمت: الناقد طارق الشناوي ونقيب المهن التمثيلية أشرف عبد الغفور ونقيب السينمائيين ووكيل نقابة الممثلين سامح الصريطي ووكيل نقابة المهن السينمائية، وانضم إليها مفتي الديار المصرية د. علي جمعة بناء على طلبه، حسبما قيل، شاهدت الفيلم، وعلى وجه التحديد الأغنية التي أثارت الأزمة، وأوصت بحذف إحدى عبارات الأغنية صوتًاً وصورة.

الأكثر إثارة أن البيان، الذي وقع عليه الناقد والفنانون، صدر باسم دار الإفتاء، التي قالت إنها «المنوطة ببيان الحكم الشرعي في الأفعال البشرية عند السؤال عنها من السائلين»، مُشيرة إلى أن توصيتها «جاءت بناءً على ما عرض عليها من غير دخول في تفاصيل العمل الدرامي والسينمائي ومدى قبولنا أو رفضنا له بل إجابة عن السؤال وبيان الحكم في المسألة المعروضة».

معنى هذا أن دار الإفتاء وجدت نفسها طرفاً في الأزمة، وأن البعض تطوع لأداء دور «الرقابة البديلة»، وأن ثمة من تعمد توظيف القانون الذي يُجيز إحالة الأمور المتعلقة بالأمور الدينية إلى الأزهر، بشكل ينحرف به عن مساره والهدف منه؛ فالأزهر ليس جهة إدارية مخولة بالمنع والتصريح، وعرض أو عدم عرض الأعمال عليه هو سلطة تقديرية مُطلقة للرقيب، وقبول أو رفض قراره أيضاً سلطة تقديرية مطلقة لهذا الرقيب.

أسوأ ما في الأزمة أن الباب أصبح مفتوحاً أمام أي فصيل أو تيار في المجتمع لينصب نفسه رقيباً على الإبداع، ويضع من عنده، وحسب وعيه ودرجة ثقافته وتدينه، الحدود التي يراها للمصنف الفني، ويرفض أن يتجاوزها المبدع بأية حال من الأحوال، وهو ما يعني أن دور «الرقابة الشعبية» سيتفاقم في المستقبل القريب، وستصبح الحرية مرهونة بـ «المزاج العام» للمجتمع، أو هيمنة التطرف على أركانه، ولا ينبغي لأحد وقتها أن يُعول على المثقفين والفنانين، لأنهم أول من يتم تجنيدهم لتنفيذ ما تراه «السُلطة»، بدليل ما جرى في لجنة «دار الإفتاء»، وبدليل تبرع أحمد السبكي منتج الفيلم، والمخرج إسماعيل فاروق، بجمع نسخ الفيلم وحذف الأغنية، قبل أن يصدر قرار رسمي بهذا، وقيل إنه فعل ما فعل استجابة لنصيحة من وزير الثقافة.

ذات يوم من عام 2000 أعرب رجل وزوجته في مصر عن سخطهما وانزعاجهما، لأن فيلماً بعنوان «الجمال الأميركي»، احتوى على لقطة اعتبراها خادشة للحياء، فما كان من مدير دار العرض سوى أن استجاب لرغبتهما، وحذف اللقطة، لكن «صفوة المجتمع» من النقاد والمثقفين أقاموا الدنيا اعتراضاً على انفراد أسرة بفرض ذوقها على المجتمع بأسره، وظلت الواقعة بمثابة الوصمة السوداء التي تُطارد كل من تورط في ارتكابها بينما وصل الحال بعدد من نقاد ومثقفي اليوم إلى مجاراة حالة التربص التي تسيطر على المجتمع المصري في الآونة الأخيرة، والتشجيع على تغييب القانون، وتجاهل الالتجاء إلى القنوات الشرعية كسبيل للتظلم، ثم التورط في تمرير، وتبرير، قرارات المصادرة، في نفاق رخيص، وتمسح فاضح، بالتيارات الدينية الصاعدة، وبعد الخروج من الغرف المغلقة يُعلنون على الرأي العام أنهم اعترضوا، ورفضوا، لكن أحداً لم يؤيدهم... ويا له من رياء يعكس حجم ما وصلنا إليه من ردة.