مع اندلاع أزمة الفيلم السيئ والمسيء للدين الإسلامي، والنبي عليه الصلاة والسلام، وتظاهرات الغضب التي اجتاحت الدول العربية والإسلامية في رد فعل شعبي فطري وتلقائي، خرج بعض الأصوات المطالبة بألا يكون «العنف الغوغائي» هو سبيلنا للتعبير عن الغضب الذي يقود إلى تداعيات سياسية خطيرة، خصوصاً أن الحريات الشخصية مكفولة في الولايات المتحدة الأميركية، وحق منصوص عليه في القانون بشكل لا يمكن التراجع عنه بأي حال!
برر أصحاب هذه الأصوات وجهة نظرهم بأن الحلول السابقة وعلى رأسها إصدار فتوى دينية بإهدار دم الكاتب البريطاني الهندي الأصل سلمان رشدي صاحب «آيات شيطانية» (1988) لم تُجد نفعاً، بدليل أن سلمان نفسه أطلَّ برأسه في غمار الأزمة، ويا لها من مفارقة ليدلي بحوار لصحيفة «التايمز» البريطانية وصف فيه الفيلم المسيء بأن «مكانه الطبيعي سلة القمامة»، وأضافوا أن استغلال مثل هذه الأحداث المشبوهة في تحريك تظاهرات صاخبة، وانتفاضات غاضبة، واجتياح للسفارات، وإمعان في إظهار الكراهية، وإطلاق الهتافات المعادية، وإضرام النيران والتدمير، وبث الفوضى، ونشر الرعب وصولاً إلى القتل... ليس السبيل الصحيح لترجمة الغضب، الذي ينبغي أن يعبر عن نفسه في رد عقلاني وموضوعي يقود إلى إجبار «الآخر» على احترام معتقداتنا والتعاطف مع قضايانا. في هذا الصدد، ظهرت اقتراحات بإطلاق قناة فضائية تدحض الإساءات وتعرض صورة الإسلام الحقيقية، بالإضافة إلى تأسيس دار نشر تخاطب الغرب وتروي سيرة الرسول (صلى الله عليه وسلم) ونهجه وقصص الصحابة، فضلاً عن إنتاج عدد من الأفلام الوثائقية التي تفند المزاعم وتصحح المغالطات، وصولاً إلى تأسيس «لوبي إسلامي» للضغط على الرأي العام الأميركي، والغربي عموماً، أسوة بما يفعله «اللوبي الصهيوني»! قيل الكثير ولكن أحداً لم يفطن إلى أنها اقتراحات للاستهلاك العربي والإسلامي قيلت مراراً وتكراراً في مناسبات سابقة تعرضت فيها معتقداتنا ومقدساتنا الدينية لإساءات كثيرة من هذا النوع الرخيص والمبتذل من التحرشات اللفظية و{الكاريكاتورية»والتصرفات غير الأخلاقية، التي تصدر عن منحرفين ومتطرفين! «أسطوانة مشروخة» بدليل أننا تعاملنا مع فيلم «الرسالة»، الذي أنتجه المخرج الأميركي السوري الأصل مصطفى العقاد عام 1977 وقدم سماحة الإسلام بتجاهل وازدراء شديدين، بلغا حد صدور قرار بحظر عرضه في غالبية الدول العربية والإسلامية، على رغم كونه الأنموذج الأمثل الذي يبحث عنه البعض اليوم، للرد الحضاري على أي إسفاف وتهجم يعكس سوء الخلق! شاءت الأقدار أن أكون طرفاً في أزمة منع «الرسالة» عندما كتبت آنذاك في مجلة «روز اليوسف» الأسبوعية لأكشف بالوثائق أن قراراً لم يصدر بحظر عرض الفيلم، الذي أجازته لجنة من علماء المسلمين، وأن ملفات الرقابة تخلو من أي وثيقة رسمية من الأزهر الشريف أو أية جهة تنص على المنع، الذي تبنته أطراف مجهولة أوهمت الجميع بتحريمه بحجة أنه يُظهر الصحابة والخلفاء الراشدين وآل بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) والعشرة المبشرين بالجنة! كذبة انطلت على الجميع في مصر وغيرها من دول عربية وإسلامية ودخل «الرسالة» قائمة الأفلام المحظورة، الأمر الذي أزعج مخرجه، فهاتفني من أميركا بعدما أبلغه محاميه في مصر بفحوى ما كتبته، وأكد لي أنه لم يتلق بالفعل أي قرار بالمنع من الأزهر أو أية جهة دينية أو رقابية، وعلى رغم يأسه وحزنه لم يستسلم وحمل على عاتقه مهمة توزيع النسخة الأجنبية من الفيلم، الذي قُدرت ميزانيته آنذاك بعشرة ملايين دولار في دول العالم المستهدفة من «الرسالة»، ونجح بدرجة كبيرة في تقديم صورة الإسلام الحقيقية ونبيه محمد قبل أن تعود الأمور إلى نقطة الصفر عقب أحداث 11 سبتمبر، التي لم يشهدها بعدما راح ضحية تفجير إرهابي في العاصمة الأردنية عمَان! من العبث إذاً أن نعود إلى القول إننا بحاجة إلى المواجهة بفكر جديد يتجاوز الخطب والتظاهرات والشعارات، فالفكر قديم وانتهجناه فعلاً في «الرسالة»، لكننا أهملناه وصادرناه وتعقبناه ولم نوظفه «لغرض في نفس المتشددين»، للرد بشكل صحيح على المزاعم والافتراءات، وها نحن نجني اليوم ذنب ما اقترفته أيدينا في حق «العقاد» سابق عصره وشيوخه، فقد كان يُدرك أننا نملك أدوات «الردع السينمائي»، ولم ير بديلاً عن الموضوعية كسلاح في المواجهة الصعبة مع أولئك الذين يحيكون المؤامرات ويستهدفون الوقيعة، لكن أحداً لم يستمع إليه لأن الأولوية لديهم في تغييب العقل والتعامل مع الحرب الباردة التي نتعرض لها بمنطق نفعي انتهازي اختلطت فيه الأدوار، وتضاربت المصالح، وانتصر فيه صوت «التطرف»... و{الجهل»!
توابل - سيما
فجر يوم جديد: سلاح الردع السينمائي!
24-09-2012