كانت "فيزا" الهجرة إلى الولايات المتحدة جاهزةً لـ"فكتور فرانكل" فهو طبيب نفسي مشهور وأستاذ جامعي، لكنه أيضاً يهودي نمساوي، وجيوش هتلر تدق أبواب النمسا، ولم يكن سراً ماذا يعني أن تكون يهودياً تحت الاحتلال النازي. لكن فكتور آثر التضحية ورفض الهجرة إلى أميركا لأن والديه المسنيين كانا بحاجة إلى رعايته، وكانت النتيجة المحتومة، فقد أسره النازيون ونُقِل إلى معسكر "أوشفيتس" الشهير، وهناك إما أن تعمل كعبد في بناء سكك الحديد، وهذا يفترض أن تكون بكامل صحتك الجسدية، وإلا فغرف الغاز في انتظارك.

Ad

يجتهد ويتظاهر السجناء مهما كانت حالتهم الجسدية مزرية، بأنهم بصحة جيدة حتى لا يرحلوا إلى غرف الغاز، فإصابة "الغرغرينا" بأصابع الأقدام بسبب العمل في إزاحة الثلوج، وشيوع مرض التيفوئيد بين السجناء كلها مسائل عادية طالما لم يلاحظها "الفورمان" ويبلغ عنها الحراس الألمان. "الفورمانيه" هم من اليهود ضعاف النفوس الذين اختاروا أن يعملوا بتلك الوظيفة كعملاء للنازيين مقابل بعض الميزات كالإبقاء على حياتهم إضافة إلى ميزات مادية، وهنا يفرق فكتور بين الخنازير والقديسين في أنواع البشر، فالخنازير هم الذين فقدوا الأمل بالمستقبل، واستسلموا لواقع القهر في المعسكر وارتضوا أن يعيشوا كطفيليات وجواسيس للنازيين على عكس أصحاب الهمم العالية للقديسين.

يبدأ الطبيب فكتور بتشريح النفس البشرية، فعنده الحياة ليست بلا معنى مهما كانت قسوة الظروف، وتحت وطأة العذاب في المعسكر تهمش بل وتتلاشى الضرورات الإنسانية، فالجنس ليس له مكان، فغريزة البٍقاء تظل هي المهيمنة، وحتى تبقى وتتحدى الواقع المر، لابد من الأمل، والأمل هو الحب والإيمان بغد أفضل. السجناء الذين فقدوا هذا تهاووا بسرعة واستسلموا للموت، بينما ظل فكتور يقاوم بالعمل بمساعدة وعلاج المرَضى نفسياً وجسدياً بالمعتقل وسلاحه حلمه بأن يلقى زوجته يوماً ما.

بعد التحرير، وضع فكتور أسس علم نفس العلاج بالأمل والعمل لكسر تمحور الإنسان حول ذاته، أسماه logo therapy، فهناك دائماً معنى للوجود الإنساني، وبهذا يقف فكتور على طرف نقيض من الفلسفات العدمية، التي لا ترى أي معنى في الوجود، وأن وجودنا هو صدفة القدر، والحياة مجرد عبث لا معنى له. "اللوغو ثرابي" ينبش معنى الوجود في النفس الإنسانية ويحرك الصراع الدائم في الذات البشرية لإقامة التوازن فيها وليس تركها لتحطم ذاتها. الفراغ هو كارثة تصيب النفس الإنسانية، ويذكرنا فكتور بمرض الأحد العصبي sunday neurosis في الولايات المتحدة. حين يكون الفراغ والبطالة من نتائج أيام العطل (ملاحظة لم يدر فكتور عن حالتنا بالكويت)، هذا الفراغ الروحي يسبب الاكتئاب والملل النفسيين، وهنا ندخل بالدائرة المفرغة بالعلاج عن طريق المخدرات والمسكنات النفسية، أو حين يترصد الفارغون لأحاديث مثل: ماذا يفعل فلان؟ وماذا قالت فلانة؟ كما هو الحال عندنا، بينما لب المرض يكمن في عمق الذات، اسمه الفراغ الوجودي existential vacuum، هذا الخلاء الوجودي يولد العدوانية وإدمان المخدرات، ويمضي فكتور مقرراً أن للإنسان مهمة في هذه الدنيا وعليه أن يحققها حسب ظروفه، فلا مكان لافتراض الشروط التي يتوهم البشر أنها تحد من قدراتهم الذاتية، وإنما هي القرارات الحاسمة هي التي يعول عليها.

عاش فكتور طويلاً ودرس بالجامعات الأميركية ومارس العلاج النفسي حتى أيامه الأخيرة وتوفي عام 1997 تاركاً لنا، مهما اختلف معه الكثيرون في معنى الوجود، فكراً حياً يزودنا بالأمل ومعنى التضحية وحب الإنسانية.

عنوان الكتاب "بحث الإنسان عن المعنىman' s search for meaning