القصيدة نمط حياة
يبدو الشعر العربي في الوقت الراهن محاطاً بأسئلة القراءة والتأويل، أكثر من أي وقت مضى، إذ يتنوّع أسلوب الكتابة، وينفتح الفضاء الشعري إلى حد محيّر، للنقاد، وذلك ما يجعل أسئلة شعرية النص تطرح مجددا؛ ففي السابق من العصور لم يكن أحد يتساءل ما إذا كان هذا النص شعرا أم لا، وذلك بسبب المستقر من العرف، وتلك القوالب الثابتة في ما يتعلّق بالوزن والقافية، واستمر الأمر على ما هو عليه حتى تعارف النقاد على ما يسمى «عمود الشعر»، وهو في جملته اختراع يزيد النقاد اطمئنانا، ومسار به تُعرف جودة القصيدة من عدمها.والسياق الزمني هنا أمر مهم لاستكشاف مراحل تطوّر القصيدة، فالبديع الذي أتحفنا به أبوتمام ومسلم بن الوليد، بكل ألوانه من سجع وجناس ونحوهما، لم يكن ليطرب شعراء الجاهلية مثلا، إذا ما عدنا قليلا إلى الوراء، وكذلك فإن تراتبية القصيدة الجاهلية من وقوف على الأطلال، وحسن تخلّص، ووصف للدابة، ومديح بعد ذلك، لم تكن هذه العتبات لترضي الذوق العربي في العصر العباسي، وإلا لما عدل عنه الشعراء إلى مراحل أخرى في تقسيم القصيدة، وإن لم تكن ثابتة أو مستقرة هي الأخرى، لذلك وجدنا النقاد يعيبون على أبي نواس أنه أتى بقاعدة بديلة لاستفتاح القصيدة، حين أراد تحويلها من قيد الوقوف على الأطلال، إلى قيد أو سجن آخر أشد وطأة، وذلك برغم اشتهار قصيدته التحويلية، وبيته الاستفتاحي:
قُلْ لمنْ يبْكي على رَسْمٍ دَرَسْ واقـفـاً، مـا ضَرّ لو كـان جلــسْوبرأيي فإن سبب اشتهار هذا البيت يعود إلى الجرعة العالية من التهكّم التي يصبغها أبو نواس عليه، ويكاد يكون بمنزلة الصدمة لتي جعلت الناس يفيقون من عرف سابق استقر في أذهانهم سنين طويلة، ويكشف البيت هذا بساطة العقلية الشعرية العربية في عصر ما قبل الإسلام، مقارنة بالعصر العباسي الذي شهد تعقيدات كثيرة متعلّقة بالانفتاح العربي على الأمم الأخرى، وتلك الفائدة التي رجع بها العرب جرّاء التلاقح الفكري والمعرفي مع هذه الأمم.بالعودة إلى القصيدة الحديثة، ومنذ بداية الثمانينيات، وحين طُرحت بشكل جدي تلك الأسئلة المتعلقة بقصيدة النثر رأينا القراءة النقدية تتجه صوب الإقصاء أو الإنكار وذلك على المستوى الأكاديمي، وحتى أولئك النقاد البعيدين عن المؤسسة الأكاديمية، قد تكون مسألة الإقصاء هذه مريحة، في مقابل تأمل النص الجديد، واستكناه مواضع الدلالة فيه، إذ ليس أمامنا أمر ثابت أو مستقر فيما يتعلّق بالقراءة، وتكاد تضيع معالم الطريق أمام نص ضبابي، لا يدرك الشاعر ذاته من أين يبدأ، وإلى أين ينتهي.ولم تكن قصيدة التفعيلة تعاني صعوبات في اقتحام الذوق العربي، أو الانسجام معه، بقدر ما تعانيه قصيدة النثر في الوقت الراهن، فالتفعيلة حققت شرطا عربيا مهماً لاكتمال القصيدة تمثل في الوزن، وإن كانت القافية فيها تأتي بشكل متقطّع مع اختلاف الأوزان من حين إلى آخر، فمازال القارئ العربي هنا يتجوّل في محيط قريب من ذائقته، ومتدرّب عليه لسنوات طويلة، ابتداء من فصول الدراسة النظامية الأولى، ومن هنا تتضح الصعوبات التي تعانيها قصيدة النثر، بعد أن حطمت كل هذه القواعد، وأصبحت تسبح في فضاء جديد مازال يتشكل حينا، وينفرط عقده في أحايين أخرى، مع الأخذ بالاعتبار أن قصيدة النثر، وخصوصاً تلك اليومية منها، تتعلّق بنمط حياة وأسلوب معيشة وليست نصاً فارغاً منْبتّاً عن تربته، ولا يتحقق تأثير هذه القصيدة وملامستها للمشاعر إلا إذا تحققت تلك الأساليب الجديدة لأنماط الحياة في المجتمعات العربية، وهو أمر مازال بعيداً.