تمثل العلاقات المصرية- الإيرانية حالة فريدة في العلاقات الدولية؛ إذ تم رهن تلك العلاقات على مدى أكثر من ثلاثة عقود متتالية بمواقف الحلفاء والأعداء بأكثر مما كانت موضوعاً لتحقيق المصلحة المباشرة للبلدين.
نظرياً، لا توجد منازعات حدودية بين البلدين بالتأكيد؛ إذ يبعدان عن بعضهما بعضا آلاف الأميال، وليس بينهما تاريخ من العداء أو الحروب؛ باستثناء الغزو الفارسي لمصر قبل بضعة آلاف سنة، ورغم تمثيل إيران للإسلام الشيعي منذ ثورتها الإسلامية في 1979، فمصر ليست الدولة الأكثر قلقاً من ذلك المد المذهبي، بالنظر إلى بعدها عن مجال التأثيري الحيوي الشيعي من جهة، وامتلاكها مرجعية الأزهر الشريف من جهة أخرى، وميراثها الحضاري المهم في "التقارب السني- الشيعي" من جهة ثالثة.عملياً، هناك عوامل كثيرة يمكن أن تعزز التقارب المصري- الإيراني في المرحلة الراهنة؛ فثمة نظام ذو سند إسلامي يحكم في مصر الآن، بل هو نظام يحاول، رغم الافتراق المذهبي، أن يستنسخ بعض ملامح "الحكم الديني" في الجمهورية الإسلامية ليطبقها في مصر؛ سواء عبر صياغة دستور يعزز هيمنة "التصور الديني للدولة والمجتمع"، أو إنشاء هيئات تسهر على "تطبيق الشريعة"، أو السيطرة على المناصب التنفيذية والسلطة التشريعية وبقية مراكز النفوذ من خلال أعضاء في الجماعة الدينية الغالبة وحلفائها.الأهم من ذلك، أن إيران تحاول أن تقدم تجربة في مجال "التحرر الوطني"، و"التنمية المستقلة"، و"التصنيع العسكري الناجح"، و"التوسع الإقليمي باسم الدين"، ومقارعة "المشروع الصهيوني- الأميركي"، و"امتلاك أكبر رمز للقوة في الوقت الراهن... القنبلة النووية"، وكلها بالطبع أهداف يمكن أن تكون، بـ"إعادة صياغة بسيطة" أهدافاً لجماعة "الإخوان المسلمين" التي تحكم مصر الآن.لقد دعمت إيران "حزب الله" الذي ينظر إليه معظم المصريين على أنه "المقاومة الإسلامية اللبنانية للعدوان الإسرائيلي"، وساعدته في "إلحاق الهزيمة بإسرائيل في عدوان يوليو 2006"، كما دعمت "حماس"، وساعدتها على الصمود في وجه "العدوان الإسرائيلي على غزة في ديسمبر 2008 ويناير 2009"، فضلاً عن عدائها الكبير للولايات المتحدة، وحرصها على صيانة "الكبرياء الوطنية" عند التعاطي معها، وهي كلها عوامل تجعل من الاقتراب الإخواني من إيران مشروعاً مرحباً به بين الجمهور المصري.حينما سقط نظام مبارك، الذي أمعن في مخاصمته لإيران وتجاهلها على مدى ثلاثة عقود، حرص وزير الخارجية في أول حكومة يتم تشكيلها بعد الثورة الدكتور نبيل العربي على الحديث عن ضرورة تطوير العلاقات مع إيران؛ وهو الأمر الذي لاقى استحساناً كبيراً في أوساط النخب المصرية أيضاً بأطيافها المختلفة.تريد النخب والجمهور أيضاً في مصر التخلص من السياسة التي اتبعها مبارك إزاء الإيرانيين، ولا يبدو أن هناك تفهماً لمواقف الرئيس المُطاح تجاه إيران، التي اتهمها مراراً، هو وأجهزته الأمنية، بـ"دعم الإرهاب"، و"محاولة تصدير الثورة ونشر التشيع"، وأخيراً بمحاولة نشر عدم الاستقرار في المنطقة عبر "الشيعة العرب الذين يعطون ولاءهم لإيران وليس لبلدانهم"، كما قال في مقابلة شهيرة أثارت جدلاً ودهشة كبيرين.سيكون تطوير مرسي العلاقات مع إيران إذن خطوة إيجابية بين الجمهور والنخب في مصر؛ إذ يعتبر الرأي العام المصري أن إيران دولة مهمة في الإقليم ومن الضروري جداً عقد علاقات جيدة معها.الإيرانيون من جانبهم لم يفوتوا فرصة واحدة للتعبير عن رغبتهم الكبيرة في تحسين العلاقات مع مصر، وهو أمر لم يتوقف لحظة واحدة منذ إطاحة مبارك، حين تدافعت الآمال في تطوير العلاقات بعد التخلص من العقبة التي مثلها نظام مبارك، وبعد وصول "الإخوان" إلى سدة الحكم في البلاد.لذلك، لم يكن مستغرباً أن يعلن مرسي زيارته لإيران لحضور قمة عدم الانحياز نهاية شهر أغسطس الجاري، ليكون بذلك أول رئيس مصري يزور إيران، وليمحو ثلاثة عقود من التجاهل والخصومة والتهميش الذي وصل إلى حد العداء بين البلدين، وليفتح الباب أمام فرص تطوير تلك العلاقات نحو استكمال التمثيل الدبلوماسي وتوسيع التبادل التجاري والتعاون الثنائي.إنها خطوة مفهومة بالطبع؛ فرغم أن "الإخوان المسلمين" كثيراً ما عارضوا المشروع الشيعي، ورغم أن بعض الدعاة والعلماء المحسوبين عليهم هاجموا بشدة ما اعتبروه محاولات لـ"نشر التشيع" بالعالم العربي، ورغم حرص مرسي، في بداية حكمه، على عدم الوقوع في مشكلات كبيرة، أو اتخاذ قرارات محورية في السياسة الخارجية يمكن أن تضغط على وضعه الداخلي الهش، فإن تجاهل الرغبة الشعبية وموقف النخبة في تطوير العلاقات مع إيران لن يكون مفهوماً. كما أن استمرار تجاهل طهران من قبل مصر لأنها "تلعب أدواراً في دعم مقاومة إسرائيل"، أو "تبني قوتها"، أو "تقارع الولايات المتحدة"، سيكون عبئاً لا يمكن لـ"الإخوان المسلمين" احتماله... وإلا فبمَ سيبررون انتقاداتهم لخيارات مبارك في السياسة الخارجية؟ما إن أعلن مرسي خطته لزيارة إيران، حتى بدأ رد الفعل الخارجي، الذي طالما رسم ملامح العلاقات المصرية- الإيرانية، في الظهور. لم تبحث الولايات المتحدة عن مدخل دبلوماسي لائق للتعبير عن موقفها، ولا استخدمت القنوات السرية الفعالة، التي نشطت في الآونة الأخيرة، لتسهيل استكمال سيطرة مرسي على كل صلاحياته في مواجهة فرقائه العسكريين؛ بل اختارت أن تبعث لحليفها برسالة حادة وواضحة؛ إذ صرحت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الأميركية في يوم 22 من هذا الشهر بأن "بلادها غير راضية عن زيارة مرسي لإيران".تقارير عديدة أيضاً أفادت أن المسؤولين الإسرائيليين منزعجون من زيارة مرسي لإيران، وهو أمر رشح بوضوح في افتتاحيات وتعليقات الصحف الإسرائيلية الرئيسة التي عبرت عن رفض شديد لخطوة مرسي إزاء طهران.يمكن بالطبع توقع أن تكون السعودية وبعض دول الخليج الأخرى، والتي تمتلك علاقات واسعة ومتشعبة بمصر، قد عبرت عن قلقها بطريقة ما لمرسي أو للدبلوماسية المصرية عن تلك الزيارة "المزعجة" من وجهة نظرها.ولهذا، فقد صرح الناطق باسم الرئاسة المصرية قبل يومين لصحيفة "الشرق الأوسط" السعودية، بأن "زيارة مرسي لإيران جزء منها بروتوكولي، ولبحث التعاون في قضية سورية... وعودة التمثيل الدبلوماسي غير واردة في هذه المرحلة".إذن، سيذهب مرسي إلى طهران ليتسق مع مطالب الثورة المصرية، ويرضي الجمهور والنخب، وينسجم مع تاريخ جماعة "الإخوان المسلمين"، وليشعر الناس بأن ثورة قامت في مصر، وليمتلك أداة للضغط على "الحلفاء الخليجيين الذين يتراجعون عن وعودهم في مساعدة بلاده"، وعلى "الإسرائيليين الذين يمانعون في بسط السيادة العسكرية المصرية على سيناء".لكن مرسي لن يطبع العلاقات مع إيران، ولن يعيد التمثيل الدبلوماسي الكامل "في هذه المرحلة على الأقل"، ولن يخاطر بخسارة دول الخليج المؤثرة، واستفزاز إسرائيل، وإغضاب حليفه الأهم الذي ساعده في معركته ضد خصومه الداخليين... الولايات المتحدة.لم يتغير الكثير إذن في طبيعة العلاقات المصرية- الإيرانية، فما زالت تلك العلاقات خاضعة للمؤثرات الخارجية، ومرهونة لمواقف الحلفاء والخصوم، وهي أبداً لا تُرجى لذاتها، وإنما تُستخدم كورقة لـ"تليين القساة"، أو "إغضاب المناوئين"، أو لـ"إرضاء الجمهور"، وليس لتحقيق اختراق سياسي، يمكن أن يغير شيئاً جوهرياً في حسابات الإقليم والعالم.* كاتب مصري
مقالات
مصر وإيران... لم يتغير شيء
26-08-2012