تعرف مصر حالة بناء نادرة، تكرست بوضوح خلال عهد مبارك، لكنها زادت بدرجة كبيرة مع تآكل سلطة الدولة على نحو حاد منذ اندلاع ثورة يناير.
يريد بعض المصريين بناء منازل أو منشآت من دون الحصول على التصاريح اللازمة من السلطات المعنية، أو بالمخالفة للوائح والقوانين، كما يسعى بعضهم الآخر إلى إقامة بناء ما على أرض لا يمتلكها، أو لا يمتلك أوراقاً تثبت ملكيته لها، وبالتالي فإن هؤلاء يلجأون إلى رشوة الموظفين المعنيين ليغضوا الطرف عن الأبنية المخالفة، فإن تعذر هذا فإنهم يقومون بـ"البناء خلسة"."البناء خلسة" في مصر هو نشاط معروف، وثمة متخصصون بارعون في إنجازه. ينتظر المواطن الذي يريد مخالفة القانون غروب الشمس، ثم يدعو مجموعة من العمال المطيعين إلى إنجاز البناء المطلوب في ساعات الليل المحدودة، بحيث يضمن أن يكون البناء قائماً عندما تُشرق الشمس في الصباح.عندما يصبح البناء قائماً على الأرض في الصباح، يكون صاحبه قد فرض أمراً واقعاً، وبالتالي يحق له "التفاوض" أو "التصالح" مع الجهة الإدارية، التي عادة ما تفرض عليه غرامة بسيطة، لا توازي أبداً حجم المكاسب التي يحققها جراء بنائه المختلس.ثمة شيء مطابق تماماً لهذا جرى للأسف في مصر، في نهاية الأسبوع الماضي، إذ "اختلست" الجمعية التأسيسية المنوط بها إعداد دستور جديد للبلاد مسودة دستور، في عملية وصفتها نخب مصرية عديدة بـ"عملية سلق الدستور".فرغم أن الرئيس مرسي، الذي أصدر إعلانا دستورياً لاقى معارضة حادة، باعتباره "تقييداً للحريات وتكريساً للاستبداد"، كان قد مدد الفترة المقررة لإعداد الدستور الجديد لمدة شهرين، فإن "تعليمات" صدرت للجمعية التأسيسية التي يهمن عليها "الإخوان المسلمون" بضرورة التصويت على مواد المسودة، لتقديمها إلى الرئيس، وإجراء الاستفتاء عليها في أسرع وقت. وبناء على ذلك، فقد قررت تلك الجمعية إتمام التصويت على مواد الدستور التي تتجاوز 230 مادة في ليلة واحدة، حيث أُبلغ الحاضرون من أعضاء الجمعية بضرورة السهر حتى الصباح لإنجاز التصويت.وعندما أشرقت شمس يوم أمس الأول الجمعة، كان بناء "مختلس" مخالف قُد أُنجز على الأرض، في ليلة واحدة، مثل 600 ألف مبنى مخالف، تقول السلطات المصرية أنها تملأ البلاد، وتهدد بانهيارات وكوارث عديدة.كانت الطريقة التي أُديرت بها جلسة الجمعية التأسيسية الأخيرة هزلية بامتياز، كما كانت أكثر الكلمات تكراراً طوال الساعات الطويلة التي تم التصويت خلالها هي: "تصويت... موافقة... إجماع". لقد رفض رئيس الجمعية أكثر من محاولة لعدد من الأعضاء لمناقشة بعض المواد، أو إضافة فقرات معينة يمكن أن تحقق مطلباً وطنياً أو تتفادى قصوراً من نوع ما، مكتفياً عادة بالإلحاح على ضرورة التصويت بنعم أو بلا، حتى يتمكن من إنجاز هذا التصويت في وقت ملائم.تريد جماعة "الإخوان المسلمين" إذن الهروب إلى الأمام، عبر خلق أمر واقع جديد يتم فرضه على المشهد السياسي الساخن في البلاد، بحيث لا يصبح أمام القوى المدنية والليبرالية المختلفة سوى أن تختار ما بين الإعلان الدستوري الهزلي الذي صدر قبل عشرة أيام أو مشروع الدستور المشوه الذي تم التصويت عليه "خلسة" في ليلة واحدة.تتكون الجمعية التأسيسية حسب نص تشكيلها من مائة عضو أصلي و50 عضواً احتياطياً، لكن أكثر من ربع أعضاء الجمعية انسحبوا منها اعتراضاً على ما وصفوه بـ"محاولة الهيمنة على عملية وضع الدستور، وعدم التوافق مع مطالب الجماعة الوطنية".وحينما تحتم على الجمعية أن تنجز هذا التصويت النهائي، لم يكن باستطاعتها تعويض المنسحبين، رغم وجود عدد كبير من الاحتياطيين، ولذلك، فلم يكن موجوداً داخل القاعة للتصويت سوى نحو 85 عضواً.لم يكن هناك أي من ممثلي القوى السياسية المدنية أو الليبرالية أو العلمانية أو اليسارية أو القومية، إذ انسحب هؤلاء جميعاً اعتراضاً على محاولات هيمنة "الإخوان" وحلفائهم "السلفيين" على عمل الجمعية، كما انسحب الأعضاء الممثلون للكنائس المصرية، فضلاً عن أعضاء نقابة الصحافيين.لقد تم تجريد المصريين من حقهم في أن يقوم على إعداد دستورهم نخب ورموز وطنية ومبدعون ومثقفون كبار، كما تم حرمانهم من أن يكون أعضاء تلك الجمعية ممثلين للقوى السياسية والاجتماعية الفاعلة بشكل عادل ومتوازن. وبدلاً من ذلك، تم الاقتصار على أتباع تيار سياسي واحد، بسبب الطريقة التي تم تشكيل الجمعية بها، والأسلوب الذي عمدت إليه الأغلبية خلال عملها، والذي عكس رغبة في الهيمنة والاستئثار، للوصول إلى دستور يحقق مطالب طرف واحد من أطراف العمل الوطني، ويستبعد رؤى الأطراف الأخرى.وبالتالي، فقد خرجت الوثيقة الدستورية المقترحة لتعكس رؤية جماعة "الإخوان المسلمين" وحلفائها السلفيين، بشكل يمّكن لـ"الدولة الدينية"، و"يدسترها"، ويقننها، ويفرط في مطالب الجماعة الوطنية الرامية إلى تعميق العدالة الاجتماعية.فلم يكتف معدو مسودة الدستور بالمادة الثانية التي تنص على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وهي المادة التي تشهد توافقاً لافتاً بين كل القوى السياسية في مصر، لكنهم أصروا على خلق سلطة دينية تكون ذات صلاحيات فوق قانونية، يمكنها من خلالها تفعيل نوع من الرقابة على التشريع، بشكل يماثل ما يجري في دولة مثل إيران.فقد ذكرت المادة الرابعة من المسودة الدستورية أن "رأي هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف يؤخذ في الشؤون المتعلقة بالشريعة الإسلامية"، وهو ما يجعل من تلك الهيئة "سلطة دينية فوق بقية السلطات الدستورية في ما يخص حسم مدى توافق القوانين مع الشريعة الإسلامية".ومما يعمق مخاوف القوى الوطنية المدنية المصرية، وينذر بكثير من المخاطر، أن الجمعية وافقت على مادة ملتبسة مضافة لإرضاء أتباع التيارات السلفية، وهي المادة (220)، التي تسعى إلى وضع تفسير لعبارة "مبادئ الشريعة الإسلامية".تنص تلك المادة على أن "مبادئ الشريعة الإسلامية تشمل أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة في مذاهب أهل السنّة والجماعة"، وهي مادة يمكن أن تفتح الباب أمام الكثير من التأويلات والافتراضات والصراعات، بسبب مطاطية تعريف مبادئ الشريعة فيها، واتساع هذا التعريف ليشمل أي مصدر يرى أحدهم أنه "معتبر"، ضمن مذاهب أهل السنّة.تمهد مسودة الدستور التي تم تبنيها "خلسة"، أي "نهزة ومخاتلة"، نهاية الأسبوع الماضي نقطة تحول رئيسة في الصراع الدائر في مصر الآن، كما أنها تكرس للدولة التي يرى "الإخوان" ضرورة إقامتها في مصر؛ وهي دولة دينية أكثر منها مدنية.* كاتب مصري
مقالات
مصر... اختلاس دستور
02-12-2012