الوطن ليس تركيبات هندسية في السكن والمصنع والشارع، وليس سوقاً تجارياً أو مفرخة دواجن أو مزرعة أو مسقط رأس... وإنما رئة للحرية ونبض للكرامة اللتان وحدهما تجذران الانتماء وتجعلان من الوطن ثدياً للمحبة والوئام وتنوعاً هو أقرب للإبداع، والوطن بغير مثل هذه العناصر هو أقرب إلى سوق نخاسة تمتهن فيه كل الكرامات، وفي أحسن الأحوال يصنف من العشوائيات، فلا هو كيان ولا هو من المحميات.

Ad

التحول على أي صعيد يستدعي بالضرورة حالة من الوعي تكون فيها القراءة دقيقة لمتطلبات الواقع وتكون الحكمة سلوكاً معتمداً، خصوصاً في فلسفة الثورات التي تشهد عادة أهم حالات التحول الكمي والنوعي وأخطرها، لأنها تكون شاملة لكل مناحي الحياة، لذلك لا يمكن الهروب منها أو القفز عليها أو التقليل من أهميتها أو اتباع الطرق التجميلية في معالجة الأزمات استناداً إلى معايير الضرورة.

التركة الدكتاتورية عادة ما تكون ثقيلة ومكلفة وطنياً واقتصادياً واجتماعياً بل وسميكة الرواسب،  وقد تصل إلى درجة المستحاثات عندما تكون طائفية المنشأ فيصعب إزالتها دون خسائر ملموسة في نسيج المواطنة وفي مستقبل الأجيال. وطبعاً هذه أهم عقبة تواجه الثورات خصوصاً السورية التي كسرت جدار الرعب، لتعود إلى الوطن وتعيده إليها خالياً من الشوائب والآثار المدمرة التي لحقت به من حقبة الاستبداد بعقودها الخمسة، والتي مورست باسمه أبشع المظالم وقطفت من أجله أجمل الزهور، مما راكم الشروخ في جسده والتي تحتاج ردحاً من الزمن في التصويب وإعادة البناء.

فالنزعة الطائفية واضحة المعالم في هياكل الدولة، وإن كانت محصورة على الأغلب في الجانب غير المدني، وقد حولت الدولة من ملكية عامة إلى ملكية خاصة، وخاصة جداً، تجرّم من يدعي الحق، وتلغي من يطلب المشاركة، وتمحو أثر من يجاهر بالمعصية والعصيان. ويوميات الثورة صريحة ولا تخطئ العنوان، وهذا ما جعل المواطنة تمر الآن باختبار صعب جداً- لم يسبق لها أن مرت به عبر التاريخ- نتيجة لهذا الحت والتآكل اللذين لحقا بها مما قلص مساحتها لدى البعض لحساب "دولة القائد"، وهذا البعض ليس بقليل، ولذلك يعول عليها أن تخرج من هذا الركام منتصبة الهامة بأقل الخسائر لتقطع الطريق على الانقسام والتشظي الذي يسعى إليه النظام في المعالجة الأمنية التي تحمل في طياتها فرزاً طائفياً يمهد لفتنة كبرى تجهض الثورة وتبقي النظام كأمر واقع.

ندرك أن الثورة منتصرة رغم الأفخاخ والكمائن لأنها إرادة شعب ووطن، وندرك أيضا أن التنوع لدينا ليس متناغماً كما يجب لتأثره بمناخ الاستبداد... وندرك أيضاً وأيضاً أن وحدة المعارضة وانسجامها يعطي الثورة شيئاً، لكن تنافرها لا ينقصها شيئاً، لكن من غير المعقول أن ندير الظهر لتلك البثور والهالات السوداء التي ظهرت إبان الثورة على سطح المواطنة والتي أخرت الحسم وأطالت الزمن وعلينا معالجتها الآن وفي ما بعد بكل الوسائل الممكنة من سلوك وشعارات وبرامج وإعلام وحوارات لزرع الثقة، بأن الثورة للجميع، والمدنية والسلمية أهم ما يميزها... والكل في المواطنة سواء.