لمن كان يراهن على ترياق الصوت الواحد، وأنه المدخل للحد من الطائفية والعشائرية، ها قد جاءت النتائج المزلزلة، بالرغم من خلو الساحة لمناصري هذا الرأي، لتتضح لنا الصورة الحقيقية. لم تكن معركة حملة المقاطعة من أجل شكل النظام الانتخابي بقدر ما كانت ترغب بإيصال رسالة، وهي رفض التفرد بالقرار وتغيير شروط اللعبة قسراً دون أن يكون للشعب رأي فيها.

Ad

وها هي الرسالة وصلت بتمثيل نائب للأمة بأربعة أعشار من المئة!  لكن لنتائج الانتخابات دلالات واضحة، فمهما تغير شكل النظام الانتخابي، ومهما قلّت الأصوات أو زادت، فالنتيجة في رأيي واحدة، وهي أن ديمقراطيتنا تعاني مرضاً خطيراً يسمى ديمقراطية الطوائف والعشائر والفئويات والعصبيات بكل ألوانها، وهو مرض مرهق مهلك يزيده استفحالاً نكوص السلطة وسعيها لقمع محاولات استكمال المشروع الديمقراطي حتى تتمكن من النمو والنضج.

فللديمقراطية أدوات وآليات لا يمكن أن تكتمل أو تتحرك للأمام بدونها، وهي إشهار الأحزاب وتداول السلطة وفصل السلطات واستقلال القضاء وغيرها من الاستحقاقات التي تسعى الحكومة إلى صدها وقمعها، وهو نكوص وإخفاق تسببا في خلق الفوضى التي تمر بها البلاد.

ولا مناص من الاعتراف بأن المعركة طويلة، وهي أكبر من تغيير نظام انتخابي، فلن نستيقظ يوماً لنجد أن ديمقراطيتنا قد عولجت فجأة من داء الطائفية أو الاستبداد إلا حين تمر بمراحل التطور وحين ترتبط بمفهوم العلمانية، فبغيابها تعتل الديمقراطية وتمرض ولا تقوم لها قائمة، وهي شرط لترسيخ قيم المواطنة في الديمقراطيات الحقيقية، حيث لا تسمى طائفة ما بالأغلبية وطائفة أخرى بالأقلية، بل تنصهر هذه المكونات بأغلبية وأقلية حزبية تنموية.   

وكما أن للديمقراطية آليات، فلها كذلك مضامين وفلسفة متكاملة، فهي لا تعني الحق برمي ورقة الاقتراع بالصندوق فقط، ومالم نستزرع الحرية في العقول فلن نحصدها في صناديق الاقتراع. يصف جورج طرابيشي هذه الحالة وصفاً دقيقاً بقوله: "ولئن تكن الحرية الديمقراطية تنتهي لا محالة إلى صندوق الاقتراع، فإن الصندوق الأول الذي تنطلق منه وتختمر فيه هو جمجمة الرأس. وإن لم يتضامن صندوق الرأس مع صندوق الاقتراع فإن هذا الأخير لن يكون إلا معبراً إلى طغيان غالبية العدد".

فلا ديمقراطية دون بناء وحراك، ولا بناء وحراك دون حرية النقد والمعارضة والمراقبة والمحاسبة، وهو عين التناقض مع مفهومي السمع والطاعة والنظام البطركي الأبوي.

نعم، ديمقراطيتنا بين المطرقة والسندان، فالحكومة وموالوها يقيمون العثرات ويقمعون الحريات السياسية، بينما تقمع الطوائف المتصارعة الحريات الفكرية والاجتماعية، والديمقراطية الحقيقية لا تعترف بأنصاف الحريات. ولكن هذا لا يلغي ضرورة فتح آفاق الديمقراطية بدلاً من قمع وكبح جماح تطورها الطبيعي، فهو طريق مؤداه الفوضى كما نرى، ولا طريق آمناً إلا باتجاه مزيد من الديمقراطية كي تتمكن من النمو ومن معالجة نفسها بنفسها.

***

يقول مرشح رئاسة مجلس الأمة علي الراشد في تصريح له إن "الكويت مقبلة على حقبة جديدة شعارها الإنجاز وإصلاح الأوضاع الخاطئة وحل المشكلات"، كما عبر عن طموحه "بتحقيق ما عجزت عنه المجالس السابقة"، ولكن أتساءل: لماذا عجزت أغلبية مجلس 2009 المطيعة التي استبسلت في دفاعها عن الحكومة وصدها لمحاولات المحاسبة ورقابتها (والتي كان الراشد ينتمي إليها)، لماذا عجزت يا ترى عن تحقيق الإنجاز وحل المشكلات وإصلاح الأوضاع الخاطئة؟