يلتبس حتى على المشغلين بالقانون أنفسهم التفسير الصحيح للنصوص التشريعية مهما روعيت الدقة في وضعها، والإفاضة أحيانا فيها، ولكن الدكتور عادل خالد الصبيح قد استقصى فأحسن الاستقصاء وقرأ فأجاد القراءة، وفهم فأتقن الفهم، واستنبط فوفق إلى الصواب.

Ad

يشارك في وضع القرار ويراقبه

"الإفراط في الرقابة يعني مزيدا من الفساد"، عنوان مقال كتبه الدكتور عادل الصبيح نشرته صحيفة "القبس" في عددها الصادر في 8 أبريل 2012، استهله ببيان فلسفة المحاسبة، وهي أن يكون هناك جهاز مستقل لرقابة الأجهزة التنفيذية، بعد منحها كامل صلاحيات اتخاذ القرار وتنفيذه، فإن شارك الجهاز الرقابي أو آثر في صنع القرار أو تنفيذه بأي درجة من الدرجات، أصبح جزءا من القرار وشريكا فيه، وبالتالي يفقد استقلاليته ولا يُطْمأن لحياديته.

ويعتبر الوزير الأسبق الأمر مقبولا إذا اقتصر دور الديوان على الرقابة اللاحقة، وكان رأيه استشارياً غير ملزم للجهتين اللتين يرفع إليهما رأيه، وهما مجلس الأمة ومجلس الوزراء، أما إن أصبح دور الديوان تنفيذيا ومحصنا في الوقت ذاته عن المساءلة فهو مرفوض عقلا ومنطقا.

ويبني د. عادل خالد الصبيح -بحق- على هذه المقدمة رأيه بأن موافقة اللجنة التشريعية بمجلس الأمة على تعديل قانون ديوان المحاسبة لمنحه الحق في الرقابة على الأداء، معناه تدخل الديوان في كل شؤون التنفيذ في كل أجهزة الدولة، ويتساءل د. عادل الصبيح، كم سيتطلب ذلك من خبرات وأجهزة في الديوان للقيام بهذا الدور؟

ثم يطرح سؤالا آخر: إذا كان ديوان المحاسبة يعتبر الجهاز المركزي للدولة لمحاربة الفساد فمن يحارب الفساد إذا كان في داخل ديوان المحاسبة؟

ويضيف إلى ذلك أن الإفراط في الرقابة يعني مزيدا من الفساد.

د. الصبيح يفتح الباب على مصراعيه

لقد فتح الدكتور عادل الصبيح بمقاله حول ديوان المحاسبة بابا طرقه من قبله السيد عبدالعزيز العدساني رئيس ديوان المحاسبة، وقت أن كان عضوا في مجلس الأمة في عام 1998 فلم يفتح له، بل رده عنه رئيس مجلس الأمة وقتئذ، عندما امتنع رئيس المجلس عن إحالة الأسئلة الموجهة إلى رئيس ديوان المحاسبة، لأن الديوان لا توجه إليه أسئلة.

ولكن الدكتور عادل الصبيح وفق إلى أن يفتح هذا الباب على مصراعيه، ويظهر الرأي العام على حقائق ناصعة في الأصول الصحيحة للرقابة على الأجهزة الحكومية والشركات التي تساهم فيها الدولة، التي يمارسها الديوان.

رقابة مشروعية وفقا لنص الدستور

والواقع أن قانون ديوان المحاسبة هو أحد القوانين المكملة للدستور، والتي عهد الدستور إلى السلطة التشريعية ممثلة بمجلس الأمة والأمير بإصدارها، وقد صدر قانون ديوان المحاسبة رقم 30 لسنة 1964 في 7 يوليو سنة 1964 أي قبل أن يجف مداد الدستور، وفي أول مجلس تشريعي استهلت به الحياة البرلمانية في الكويت، وكان من بين أعضاء هذا المجلس بعض أعضاء المجلس التأسيسي، وهم- من غير شك- أكثر بصرا بأحكام الدستور، وأعمق إدراكا لمبادئه واتجاهاته بلا جدال، وقد فسروا الدستور وفقا لنية المشرع الدستوري الحقيقية وقت وضع الدستور، لا النية المفترضة أو المحتملة.

ووفقا لصريح نص المادة 151 من الدستور فإن ديوان المحاسبة هو ديوان للمراقبة المالية، كما أطلق عليه الدستور، يعاون الحكومة ومجلس الأمة في أمرين:

أولهما: رقابة تحصيل إيرادات الدولة.

ثانيهما: رقابة إنفاق مصروفاتها.

وهي في الحالتين رقابة مشروعية يمارسها الديوان للتحقق من تطبيق أحكام الدستور والقوانين واللوائح.

الرقابة المقترحة تخالف الدستور

ومن هنا فإن تعديل رقابة المشروعية التي يمارسها الديوان طبقا لأحكام الدستور ولأحكام قانون إنشاء الديوان رقم 30 لسنة 1964، يتطلب تعديلا للمادة 151 من الدستور، لتنص صراحة على اختصاص الديوان برقابة الأداء التي خلا منها النص الحالي.

لأن اختصاص الديوان مستمد من الدستور مباشرة، ومقرر لمؤسسة دستورية، أراد المشرع الدستوري أن تمارس اختصاصها في نظام متكامل للحكم يقوم على مبدأ الفصل بين السلطات، فلا يجوز الخروج على هذا الاختصاص بأداة أدنى من الدستور ولو كانت قانوناً.

رقابة الأداء تهدر استقلال الديوان

وقد كان مشروع الدستور الذي أقرته لجنة الدستور يلحق الديوان بمجلس الوزراء، فاعترض الوزير عبدالعزيز الصقر في المجلس التأسيسي على هذا النص، وطالب بإلحاقه بمجلس الأمة لتحقيق استقلال الديوان الذي يراقب السلطة التنفيذية، ووافق المجلس التأسيسي على ذلك، وعدل النص على هذا النحو (جلسة المجلس التأسيسي 2/10 و24/10 /1962).

ومعنى ذلك أن الأساس في إلحاق الديوان بمجلس الأمة هو تحقيق استقلاله، وقد نصت المادة 151 من الدستور على إلزام السلطة التشريعية بكفالة استقلال الديوان.

ومن الجدير بالذكر أن أنظمة إدارات التدقيق الداخلية في الأجهزة الحكومية وفي البنوك والشركات تمنع الإدارات المذكورة من الاشتراك في التنفيذ بأي صورة من الصور حتى لا تكون شريكة في اتخاذ القرار الذي تراقبه، بما يهدد استقلالها وحياديتها.

لذلك فإن تخويل ديوان المحاسبة رقابة الأداء يهدد استقلال الديوان وحياديته. وهو ما يوقعنا في مأزق دستوري آخر هو وجوب إلحاق الديوان بمجلس الوزراء، وليس بمجلس الأمة، احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات الذي تنص المادة 50 من الدستور على قيام نظام الحكم على أساسه، لأن تدخل الديوان في أعمال التنفيذ من خلال رقابة الأداء يجعله جزءا لا يتجزأ من السلطة التنفيذية، بل يصبح الديوان بهذه الرقابة حكومة موازية للحكومة الأصيلة في السطلة التنفيذية، لما تتطلبه هذه الرقابة من جيش جرار من الموظفين والخبراء والأجهزة بالتوازي مع ما هو متوافر لدى هذه السلطة.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.