يحتل مهرجان القاهرة السينمائي الدولي المركز الحادي عشر بين 12 مهرجاناً تتمتع بالصفة الدولية، لكنه انفرد في دورته الخامسة والثلاثين، التي بدأت أعمالها في 28 نوفمبر الماضي وتستمر حتى اليوم 7 ديسمبر الجاري، بكونه المهرجان الأول في العالم الذي يُقام خلف الأسوار، وينأى بنفسه عن الجمهور الذي يُفترض أنه المستهدف من تنظيم أي مهرجان في العالم!

Ad

هذا ما حدث بالضبط عندما قرر وزير الثقافة المصري، ووافقه القيمون على إدارة المهرجان، الذين تقلدوا مناصبهم في غفلة من الزمن، وبقرار شخصي منه لاقى اعتراضاً ورفضاً من الكثيرين، بألا تخرج عروض وفعاليات دورة المهرجان الخامسة والثلاثين عن نطاق ساحة دار الأوبرا المصرية، وألا تُقام أي عروض داخل الصالات التجارية المخصصة للجمهور، ما أدى فعلياً إلى عزلة المهرجان وسجنه خلف القضبان المُحيطة بساحة الأوبرا، التي تعاني عروضها الأوبرالية والموسيقية والغنائية من انفضاض الجمهور ظناً منه أنها تخاطب الصفوة، ولا ترحب بغير النخبة!

ما أريد قوله إن بين رجل الشارع والأوبرا حواجز نفسية كثيرة تجعله يرهبها، ويخشى الاقتراب من أسوارها، ومن ثم جاءت خطوة «الوزير» و{بطانته»، باختيارها، بحجة الدواعي الأمنية، كمقر «حصري» لعروض وفعاليات مهرجان سينمائي «مكانه بين الناس ومعهم»، ليكرس عزلة مهرجان القاهرة السينمائي وانفصاله عن الجمهور للمرة الأولى منذ انطلاقه!

العجيب أن مسارح الأوبرا ومراكزها لم تكن مؤهلة، باستثناء مركز الإبداع، لاستقبال عروض الأفلام، نظراً إلى أنها مجهزة لاستقبال العروض الموسيقية والمسرحية فقط، ومن ثم فشلت المحاولة اليائسة لتجهيز بعض القاعات، وإعدادها قسراً لاستقبال أفلام المهرجان؛ حيث عانت العروض مشاكل في الصوت والصورة، وكانت النتيجة وبالاً على الجميع، ابتداء من المنتجين والمخرجين مروراً بالصحافيين والنقاد وانتهاء بالجمهور القليل الذي واظب على الحضور، وغالبيته من عشاق السينما، وأعضاء الجمعيات التي تهتم بنشر الثقافة السينمائية، ولا مكان لرجل الشارع البسيط!

بالطبع بذلت إدارة المهرجان جهوداً مستميتة لاستعادة الجمهور، وإغرائه بالعودة، وتعويده على «الفرجة» في دار الأوبرا المصرية، حيث طرحت بطاقات دخول مخفضة، وبأسعار رمزية للغاية، لكن شيئا لم ينقذ مهرجان القاهرة السينمائي من انفضاض الجمهور، الذي آثر الابتعاد عن القضبان، ورفض أن يسجن نفسه طواعية وراء الأسوار، فترك الأسوار والقضبان لمن اعتادها من المثقفين والنقاد والصحافيين! كارثة بكل تأكيد أن يتحول مهرجان سينمائي يهدف في المقام الأول إلى «تشكيل فضاء للصداقة والحوار حول فن السينما بين فناني مصر والعالم من جهة والجمهور من جهة أخرى»، حسبما تنص المادة الأولى من لائحة مهرجان القاهرة السينمائي، إلى «سجن كبير» أو «برج عاجي» للسينمائيين والنقاد والإعلاميين، نتيجة تعالي إدارته وانفصالها عن الجمهور وجهلها برسالة السينما وهدف المهرجانات، ومن ثم اقتصرت حوارات مهرجان هذا العام على الاختصاصيين في ما يُشبه «حوار الطرشان»، بينما الجمهور المستهدف غائب، ولا أحد يسمع له صوتاً!

إنها الرغبة الشيطانية في الالتفاف حول الفعاليات الثقافية وتحجيم دورها، خشية تنامي قدرتها على بث روح التغيير، وأملاً في الحد من تأثيرها على الجمهور؛ فالمهرجانات هي التي تحصن الناس ضد تيارات التطرف الديني، وهي التي توسع مداركهم، وتضعهم على أعتاب المعرفة بأوطانهم والعالم، وعزلها عن الجمهور بمثابة أول خطوة في سبيل تدميرها، وهو الهدف الذي حققه مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الخامسة والثلاثين «بنجاح عظيم»، عندما تعمد إقصاء الجمهور عن عروضه وفعالياته، وصب اهتمامه على تقديم سينما يستهلكها منتجوها، ولا تصل إلى المستهدف منها، وكانت النتيجة أن تأثرت سمعة مهرجان القاهرة سلباً، ولم يجد ضيوف الأفلام من يناقشهم، مثلما عجزوا عن رصد ردود أفعال الجمهور الحقيقي أمام شاشات العرض التجارية، وليس في الصالات التي أعدت على عجل بعد قرار «الوزير»، الذي صدر بناء على «هواجس أمنية»! افتقد مهرجان القاهرة السينمائي «الصخب الجميل» الذي كان يميزه، واعتاد أن يُشيعه في أرجاء «العاصمة»، بعد ما انكفأ على نفسه وانفصل عن جمهوره، ولم يعد هناك من يجد في عروضه المتنفس الذي يُفرج الهموم، أو يُدخل الفرح والسعادة إلى القلوب، وواجب كل من ينتمي إليه، من «الوزير» إلى «البطانة»، أن يرفع يده عنه ويحمل عصاه ويرحل!