موقفان إزاء الشعر يستدعيان التردد والحيرة! الأول حين يقف الشاعر –أي شاعر- على منصة أمام جمهور، فيحتار أمام نصوصه وجمهوره، هل يختار ما يناسب ذائقته أم ما يناسب طلب الجمهور!
أما الموقف الثاني فهو حين يوضع الإنسان أمام محك الاختيار، ويُنصّب حَكَماً في منافسة أو مباراة لاختيار الأفضل والأشعر! فيحتار ما بين عمود الذائقة المتوارثة بكل شروطها القديمة والحديثة، وبين توقه لكل ما يخرج عن هذا النسق ويكسر هذا العمود العتيد، منطلقاً نحو شعرية أكثر إيغالاً وابتكاراً وملامسة لجوهر الشعر الحق.يقول أدونيس في كتابه «موسيقى الحوت الأزرق» ما نصه:«(الطرب) و(الوظيفة) هما قوام الشعر بالنسبة إلينا نحن العرب، فلا شعر إلا بهما. وكل شعرٍ آخر لا يُطرب ولا يُوظَّف لا يُسمى شعراً... ليس من طبيعة الذائقة الشعرية العربية أن تسميَ شعراً كتابةً لا تُطرِب، أو أن تقبل للغناء كلاماً غير موزون أو غير موسيقي.وقد أكدت التجربة التاريخية أن الشعر القائم على التساؤل والتأمّل والاستشراف، وعلى استقصاء العوالم الداخلية كينونة وصيرورة، لا مكان له في الذائقة الشعرية العربية. ولنقل دفعاً للمبالغة، لا مكان له إلا عند قلة قليلة. وهو إذن شعرٌ لا يمكن بالطبيعة والضرورة إلا أن يكون هامشياً لا جمهور له».ويبدو أن مسألة أن «تُطرب» جمهورك و»توظف» شعرك لخدمة قضاياه وأيديولوجياته لاتزال شرطاً لازماً في ثقافتنا. هذا إذا أخذنا بعين الاعتبار ارتباط المتلقي بجذور ثقافية كانت ولاتزال ترى في الشعر خادماً أميناً للمجتمع ومعبّراً عن ضميرها وهويتها وعمقها التاريخي والروحي. ويكاد هذا الاعتقاد يحمّل الشعر أكثر مما يحتمل، في زمن تعددت فيه وسائل التعبير عن الهوية والثقافة، وما عاد الشعر الديوان الأوحد للأمة كما كان في عصوره الغابرة.وبذلك أعتقد أنه ليس بالضرورة للشاعر الآن أن يرهن اختياراته لذوق جمهوره، وعليه بدلاً من الخضوع لرغباتهم المرتبطة غالباً بمرجعية لغوية وموسيقية مألوفة، أن يكسر توقعاتهم وأوهامهم حول الثبات والتكرار وإعادة تمثيل الأدوار السالفة. إن الشاعر وهو يعيد برمجة الذائقة الجماهيرية بما يتناسب واستشرافاته الحاضرة قد لا يضع المتلقي على متكأ من حرير، وقد لا يلقى صيحات الاستحسان والابتسامات المسترخية، والأكيد أنه سيحتاج ردحاً من الوقت حتى يبني جسر الألفة نحو لغته وخطابه. هذا الكدح نحو إعادة تشكيل الذائقة الشعرية العربية بات من المسلمات في كل منعطف من منعطفات التجديد والتحديث عبر العصور المختلفة، ولعل ذات التحدي يواجهنا في هذا العصر الأكثر تجريباً وتجرؤاً على لغة الشعر وتقنياته الفنية.ويبقى أنه من بين التحديات التي يواجهها الشعر الآن مسألة «هامشيته» وتبرؤه من شرطي «الطرب» و»الوظيفة»، وإخلاصه «للتساؤل والتأمل والاستشراف» والامتياح من الأصقاع الداخلية، واستلهام دبيب اللحظات اللطيفة الهاربة في نسيج الحياتي واليومي. ويبدو والحال هذه أن «عموداً»* آخر بات يتأسس على مشارف طفولة جديدة للشعر، أو بالأحرى أصبحت فسحة «اللاعمود» هي الملعب الأكثر تحدياً وإغراءً.وإن كان الاشتغال على هذا النموذج من الشعر هو اختيار حر بالدرجة الأولى للشاعر، فإلى أي مدى يا ترى يرتفع سقف الحرية أمام الحَكَم أو الناقد الأدبي ليلج هذا المضمار بحرية لا ضرر فيها ولا ضرار؟!* مصطلح «عمود الشعر» ورد وتأسس في كتب النقد العربي القديم، ويُقصد به جملة من الشروط يستحسن توافرها في القصيدة لتنال قصب السبق في الجودة والإحكام. وهي شروط تتعلق بالصياغة اللغوية والبلاغية والمعاني والألفاظ والتناص مع الأمثال والحكم والشواهد التاريخية... إلخ.
توابل - ثقافات
أن تكون حكما
19-06-2012