حين تطأ قدم الزائر ولاية "فلوريدا" الأميركية، خاصة إذا كان بصحبة أطفال، فإن ولع الأطفال بالكاد يمكّنهم من تحمّل مشقة الصبر، لحين تعانق عيونهم البريئة صورة "ميكي وميني ماوس"، وتكاد تطير بهم أحلامهم، لمقابلة شخصيات "كارتونية" خيالية كثيرة شكّلت وتشكل جزءاً كبيراً من مخيلتهم واستحوذت على أحلامهم. لكن، ما إن يصل الزائر إلى أراضي "دزني لاند- Disney's Land "، حتى يأخذ الأمر منحى مختلفاً تماماً، ويصبح الصرف المادي المجنون هو الحاضر الطاغي على جميع ما غيره.

Ad

بعيداً عن أسعار الفنادق القريبة من مدن ملاهي الأطفال، فإن زيارة أي مدينة منهم: "دزني لاند"، أو "هوليوود استديو-Hollywood Studios"، أو "يونيفرسال استديو- Universal Orlando Resort"، كل هذه الأماكن التي يبدو للوهلة الأولى اتصالها المتين بمتعة الأطفال البريئة، لا علاقة لها من قريب أو بعيد بأي براءة أو فن، وعلاقتها الوحيدة منصبة على جني المال. بدءاً من أسعار تذاكر الدخول إليها، مروراً بالطوابير المنتظرة من الأطفال لالتقاط صورة تذكارية مع الشخصيات الكارتونية، وأخذ توقيعها على دفاتر خاصة بالتواقيع، عبوراً على محلات تجارية تنتشر على طول وعرض المدن الترفيهية، وتتخذ من ملامح وصور وقصص أبطال الكارتون فخاخاً لاصطياد المعجبين بهم. وهكذا تجذب هذه المدن الترفيهية، على مدار العام، أسر زائرة بصحبة أطفالهم، من شتى بقاع الأرض، ليس لشيء إلا لتفريغ جيوب الأهل من مئات الملايين من الدولارات، بعيداً عن الفن والثقافة.

في عالم اليوم، عالم "القرية الكونية"، و"الثقافة الكونية"، وعالم ثورة المعلومات، وشبكات التواصل الاجتماعي، ما عاد بمقدور أحد الوقوف بوجه علاقة تنشأ بي الطفل وبين مسلسلات وأفلام شركات عملاقة عابرة للقارات، تتخذ من صناعة الفن وتصديره مصدراً أساسياً لعملها، وتقوم بتجديد القصص العالمي بثياب فنية متغيرة ومتجددة. لكن ما يلفت النظر في هذا الشأن، هو إصرار هذه الشركات على صبغ القصص العالمي، أياً كان مضمونها، بلون الشر والعنف والقتل والدم، وتربية أطفال العالم على وصلٍ قوي بشخصيات وقصص خيالية من جهة، ودسّ مفهوم العنف لهم بشكل خفي، يراكم لدى الطفل القناعة بأهمية العنف، وانتصاره المؤكد على ما سواه، بعيداً عن قيم الفن الإنساني المبدع والجميل. وأخيراً استغلال حب الأطفال لشخصياتهم الأثيرة وتسليع الفن بكل صورة ممكنة.

إن إبداع خيال عجيب يحاكي مخيلة الأطفال المنفلتة من كل عقال، في مسلسلات وأفلام عالمية باهرة، هو في صلب العمل الفني المطلوب. لكن، كيف يمكن في موازاة ذلك تسخير الفن لإيصال رسائل إنسانية مهمة، كالصدق والمحبة والصداقة والسلام؟ ولماذا تراها تصرّ شركات إنتاج الأفلام العالمية على جعل العنف محوراً تدور حوله معظم أفلامها؟

وحده العنف البشري المتوحش والمعاش يومياً كفيل بجعل لون الدم، هو لون اللحظة الإنسانية الراهنة، حيث أصبح مشهد البطش والقتل الحي، مشهداً مألوفاً تتناقلة جميع القنوات الفضائية، وتتسابق في اصطياد لقطات عنف مقززة تعاف النفس مشاهدتها! والأدهى من ذلك مشاركة أطفال، في عمر الزهور، في القتل الحي. فلم يعد الأطفال وقوداً مجانياً للحروب العمياء المجنونة، بل صاروا يتفاخرون بغباء بممارسة العنف الحي، حتى قبل أن يدركوا ما خلف العداوة والدم والقتل!

عجيب هو إنسان القرن الواحد والعشرين، في إصراره المجنون على مزيد من البعد عن الخير والوصل البشري، وإصراره على نبذ الآخر والتخلص منه! وأعجب منه، قيام شركات تأسست لنشر الفن والثقافة والمتعة، لتشارك في مشهد العنف الأعمى، وتبث سمومها اليومية ليزداد المشهد الإنساني عنفاً على عنف، وجنوناً على جنون، وكم هو مؤلم ذلك وغير مبرر؟!