الحديث المعاد حول تطبيق الشريعة الإسلامية، وتعديل المادة الثانية من الدستور، لتصبح المصدر الوحيد للتشريع، هو إنكار للتطور في الحياة والمستجدات التي طرأت على حياة الجماعة في العالم وسعيها إلى الرقي والتقدم، والقانون لازم من لوازم هذه الحياة ومن ثم فهو أحد أدوات رقيها وتقدمها، وقد وقف الفقه الإسلامي دون تجديد عند كبار الأئمة وعظمائها الذين غادرونا إلى الحياة الآخرة، الإمام أبو حنيفة في عام 150 هـ، والإمام مالك في عام 179 هـ، والإمام الشافعي في عام 179هـ، والإمام ابن حنبل في عام 241 هـ.

Ad

فأعمالهم وأقوالهم وآراؤهم كانت ولا تزال معيناً لا ينضب للفقه في الغرب والشرق، وقد وقف الفقه الإسلامي وتجمد بعدهم، واكتفى بالتقليد دون التجديد، في الوقت الذي يسابق فيه فقه القانون الوضعي الزمن ليواكب مستجدات الثورة الصناعية ثم ثورة التكنولوجيا وثورة حقوق الإنسان.

فالحديث عن تعديل المادة الثانية من الدستور لتصبح الشريعة الإسلامية المصدر الوحيد يتجاهل هذه الحقائق فضلا عن الحقائق التالية.

مفهوم الشريعة الإسلامية

ذلك أن هذا الحديث المعاد في إنكاره الإسلام على كل من لا يوافق على تعديل المادة الثانية من الدستور، إنما يربط بين هذه الشريعة والعقيدة الإسلامية رباطاً لا سند له من نص المادة الثانية ذاتها، التي نصت على أن "دين الدولة الإسلام والشريعة الإسلامية مصدر رئيس للتشريع" لتأتي بعد ذلك المذكرة التفسيرية للدستور، لتحدد مفهوم الشريعة الإسلامية وفقا لهذا النص فتقرر أنه "لم تقف هذه المادة عند حد النص على أن دين الدولة الإسلام، بل نصت كذلك على أن الشريعة الإسلامية- بمعنى الفقه الإسلامي- مصدر رئيس للتشريع".

وقد وافق المجلس التأسيسي على المذكرة التفسيرية، بعد موافقته على الدستور، فأصبح ما ورد فيها من تفسير لبعض نصوصه، ومن تحديد معنى الشريعة الإسلامية في تطبيق هذا النص ملزماً شأن النص الدستوري الذي تفسره، وهو معنى لا يربط الشريعة الإسلامية بالعقيدة.

والواقع أن إطلاق اصطلاح الشريعة الإسلامية على الفقه الإسلامي، ليس اصطلاحاً أو مفهوماً استقل به الدستور الكويتي، بل هو اصطلاح فقهي إسلامي، أطلقه فقهاء المسلمين، على ما يبدونه من آراء وفتاوى وما صاغوه من نظريات.

أنصفها الغرب

وكان للفقه الإسلامي موقع الريادة في عالم القانون المقارن، تلقفه علماء الغرب، وأخذوا عنه الكثير من نظرياته، حتى قيل إن الغرب أنصف الفقه الإسلامي بما لم ينصفه أهله، ففي كتاب "تراث الإسلام" الذي ألفه أحد أساتذة جامعة إكسفورد، يقول الأستاذ أننا أخذنا من الشريعة الإسلامية كثيراً من القوانين الخاصة بالمعاملات التجارية والشركات التجارية، وفي مقدمتها النوع الذي نعتقد نحن أنه مأخوذ من الشريعة الإسلامية، وهو شركات التوصية التي يسميها علماء الشريعة "شركات القراض".

وفي كتاب "قانون البحر والنهر" الذي وضعه في بلجيكا سنة 1938 اثنان من كبار رجال القانون البلجيكيين هما نقيب المحامين ومستشار بمحكمة النقض البلجيكية، رويا في هذا الكتاب أن "ريتشارد قلب الأسد" عند عودته من الحرب الصليبية وقف في جزيرة في المحيط الأطلسي أسمها "أوليرو" وأمر من معه من المدونين بأن يدونوا جميع القواعد الخاصة بالتجارة والعادات البحرية التي نقلوها عن العرب، أثناء الحروب الصليبية، وأصبحت هذه القوانين البحرية المعمول بها في أوروبا.

الإنكار التام للشريعة الإسلامية

ولكن، كان للزعيم والقائد التركي مصطفى كمال أتاتورك موقف مخالف تماماً، عندما اعتلى السلطة في تركيا بعد انقلابه على نظام الحكم وأصبح المنقذ والزعيم الملهم والأب الروحي لحركة التجديد في تركيا وأول رئيس للجمهورية التركية بعد إلغائه الخلافة العثمانية، التي اتهمها بالتسبب في وفاة مليون من الأتراك في الحروب التي خاضتها، وأنها تقف عقبة في تحديث البلاد وتتعاون مع الاحتلال.

وكان من بين ما قام به من أعمال إلغاء المحاكم الشرعية والقوانين الإسلامية حتى في مجال الأحوال الشخصية وإلغاء الحروف العربية واستبدلها بالحروف اللاتينية، وقد استوحى القانون المدني التركي من القانون المدني السويسري.

كان موقف مصطفى كمال أتاتورك العداء التام لمبادئ الشريعة الإسلامية، وكانت هذه تعليماته للجان التي شكلها لتحديث القوانين، مشروع قانون المواريث، وبعد أن قامت اللجنة بعرضه عليه، وهم بتوقيعه ليصبح قانوناً من قوانين البلاد، وعندما عرف إنه مأخوذ من القانون السويسري، تهلل الرئيس التركي فرحاً، إلا أن أحدهم قال له بأن قانون المواريث السويسري مأخوذ من الشريعة الإسلامية، فانتفض الرئيس التركي وألقى بالقلم من يده وطالبهم بالبحث عن مصدر آخر من مصادر التشريع.

القانون المدني المصري ينصفها

وأنصفها القانون المدني المصري الذي صدر في عام 1948 وكان أسبق من الدستور الكويتي إلى الأخذ باصطلاح الشريعة الإسلامية بمعنى الفقه الإسلامي، عند بيان المصادر التي يرجع إليها القاضي، وحذا حذوه القانون المدني الكويتي عام 1980، والذي اعتبر بدوره الشريعة الإسلامية، بمعنى الفقه الإسلامي، أحد المصادر التي يرجع إليها القاضي بعد العرف إذا لم يوجد نص تشريعي اتساقاً مع المادة الثانية من الدستور لتكون هذه المبادئ مصدره الأول بعد التشريع بالتعديل الذي أدخله القانون رقم (15) لسنة 1996 على المادة الأولى من القانون المدني الكويتي.

فإذا أضيف إلى ذلك أن الشريعة الإسلامية كانت أحد المصادر التي استقى منها القانون المدني المصري أحكامه، وأن القانون المدني الكويتي مأخوذ من أحكام القانون المصري، فإن الشريعة الإسلامية تكون بذلك قد تبوأت مكانها اللائق بها في وضع القانونين، وفي رجوع القاضي إلى أحكامها، عندما لا يجد القاضي نصاً تشريعياً بحكم المسألة المعروضة عليه أو عرفاً يطبقه.

وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.