لم يكد الرئيس المصري محمد مرسي يجلس على الكرسي حتى اختار أن يبدأ حكمه بتحدي القضاء المصري، أصدر قراراً بعودة البرلمان المنحل وانعقاده من جديد، وكانت المحكمة الدستورية العليا وهي أعلى هيئة قضائية قد أصدرت في 14/6 حكماً بحل البرلمان لبطلان القانون الذي جرت على أساسه الانتخابات.
لم يكن الرئيس موفقاً في هذا القرار لا سياسياً ولا قانونياً، فالدخول في معارك مع القضاء خطأ جسيم غير لائق بإنسان متحضر فما بالك برئيس للبلاد؟!تاريخنا الإسلامي حافل بروائع لاحترام الحكام للقضاء حتى في أشد العصور تخلفاً، وفي الأغلب أن هذا ليس خطأ الرئيس بل خطأ مستشاريه الذين زينوا له قراره فورطوه وما أكثر المتملقين! وعسى أن يكون الرئيس أكثر حذراً في قادم الأيام. كنت قد دعوت الله تعالى أن يعين الرئيس المصري في التحديات الكبرى وبالأخص التحدي الاقتصادي وتوفير فرص العمل لملايين الشباب العاطلين عن العمل، وتنشيط دورة الإنتاج والتصدير وعودة الناس إلى أعمالهم ومصانعهم، وذكرت في المقالة السابقة أن النجاح الاقتصادي يتطلب شرطين: استقرار داخلي وعلاقات جيدة خارجياً. وفوجئت بهذا القرار الذي يدفع لمزيد من عدم الاستقرار، إذ لا يمكن لشعب عريق متحضر كالشعب المصري في احترامه لقضائه النزيه والشامخ على مر العقود أن يسكت على إهدار حكم العدالة، فذلك غير متصور مهما حاول المخادعون والمضللون والمتلاعبون، إنه لأمر ساذج ومضحك القول إن الرئيس يحترم القضاء لكنه فقط ألغى قرار المجلس العسكري بحل المجلس! حل المجلس أيها السادة العقلاء، حكم قضائي وليس قراراً عسكرياً، لا يمكن لهذا الشعب الذي رفض الاستبداد أن يقبل بالتجاوز على أحكام القضاء، حصن العدالة وقلعة الحريات، كما لم يكن لائقاً أن يعقد مجلس الشعب اجتماعه القصير واليتيم وهو يعلم بطلانه وبطلان قراره، هل كانوا يضحكون على أنفسهم أم على الآخرين؟! هؤلاء الذين حضروا فقدوا مصداقيتهم وأساؤوا لأنفسهم، إذ ليس مما يشرف تحدي القضاء!القضاء لم يكن في يوم من الأيام طرفاً في صراع سياسي أو في خصومة مع أي جهة أو مؤسسة، وذلك بالرغم من كل الضغوط والتدخلات، ومحاولات إرهاب القضاة والتعدي عليهم بفحش القول والإساءة والإيذاء، المجلس الباطل يعلم يقيناً أن قراره باللجوء إلى محكمة النقض غير ذي جدوى، لأنه: أولاً قرار منعدم. وثانياً: حكم الدستورية لا معقب عليه. وثالثاً: ممنوع على الأدنى الحكم على الأعلى. ورابعاً: "النقض" غير مخولة بالطعن الدستوري، إذن لماذا اجتمعوا وقرروا؟! اجتمعوا ليناوروا ويخدعوا الرأي العام، وليمارسوا ضغطاً على القضاء، وليوهموا الناس بأن قرار الرئيس صحيح! وخاب مسعاهم وفشلوا فشلاً ذريعاً، إذ رأوا تحدي الشعب لهم فقرروا تعليق جلساتهم إلى الأبد، والمدهش أنهم عللوا اجتماعهم بأنهم يحترمون القضاء ومبدأ الفصل بين السلطات لكنهم أرادوا مناقشة آلية تنفيذ الحكم! وهو عذر أقبح من ذنب، أي احترام للقضاء وأنتم تهاجمونه وتشوهونه وتتهمونه وترهبونه وتماطلون في تنفيذ أحكامه؟! اضطر الرئيس أخيراً للتراجع بعد أن قضت الدستورية بوقف قراره، وألزمته بتنفيذ حكمها السابق ببطلان وانعدام البرلمان، كما كان نادي القضاة قد أمهل الرئيس 36 ساعة لإلغاء قراره، وكان الرأي العام المصري كله بالمرصاد دفاعاً عن حصن العدالة، ورضخ رئيس الجمهورية معلناً احترامه لحكم القضاء وتقديره لقضاة مصر الشرفاء، إذن لماذا الدخول في معركة خاسرة منذ البداية؟ وما الدوافع التي جعلته يتخذ هذا القرار الخاطئ في بداية حكمه؟ وهل يجب عليه الاعتذار؟ تختلف تفسيرات المحللين في دوافع الرئيس لاتخاذ هذا القرار المسيء، هناك من يفسره بمعركة الصلاحيات بمعنى أن الرئيس أراد أن يثبت للملأ أن صلاحياته كاملة بدليل أنه يستطيع إلغاء قرار المجلس العسكري بحل البرلمان، لكن هل يعقل أن يغيب عنه وعن مستشاريه أن حل البرلمان لم يكن قراراً بل حكم قضائي صادر من أعلى هيئة قضائية تعتبر أحكامها نهائية، وتسري على المؤسسات كافة وعلى رئيس الجمهورية نفسه؟! فإذا كان الرئيس ومستشاروه يريدون تحدي المجلس العسكري وإعلانه الدستوري المكمل، فقد أخطؤوا وضلوا السبيل، هناك تفسير آخر يرى أن "الإخوان" هم المهيمنون على البرلمان المنحل ولا يضمنون مثل هذه الهيمنة في الانتخابات القادمة لسبب بدهي، وهو أن الشعب المصري لن يمكنهم في المرة القادمة من الاستحواذ على البرلمان في ظل استحواذهم على الرئاسة، فمن الطبيعي أن يحاول "الإخوان" بكل الطرق المشروعة وغير المشروعة من التحايل والمراوغة والمماطلة والالتفاف على حكم الدستورية استبقاءً لهيمنتهم، قد يكون هذا التفسير صحيحاً حزئياً لكن محاولات عرقلة العدالة تضعف مصداقية هؤلاء سياسياً.هناك تفسير ثالث ينطلق من التصور العام للإسلاميين لنظام الخلافة في التاريخ الإسلامي، ولصلاحيات الخليفة المسلم على مر العصور، فالإسلاميون عامة و"الإخوان" خاصة، يتصورون الحاكم المسلم مطلق الصلاحيات، والخليفة في نظرهم هو إمام المسلمين في الصلاة، وهو القاضي الأعلى على القضاة كافة، وهو القائد الأعظم في الحروب والغزوات، وهو الوكيل العام المتصرف في بيت المال يقسم ويوزع ويهب كيفما يشاء، وهو السلطان الذي لا ينازعه أحد في سلطته وإلا كان باغياً. وهذا التصور ينسجم تاريخياً مع ما كتبه الفقهاء القدامى خصوصاً فقهاء السياسة الشرعية في نظرتهم لسلطات الخليفة، ولما كان عليه الوضع السياسي على امتداد 14 قرناً، لقد صور الفقهاء الخليفة حاكماً يجمع السلطات كافة، ومنه تستمد بقية السلطات القضائية والعسكرية والإدارية، شرعيتها، فهو القطب الأعظم الذي يدور حوله الجميع وعليهم طاعته وعدم الخروج عليه. قد يكون مثل هذا التصور التاريخي لسلطات وصلاحيات الحاكم هو ما استبطنه هؤلاء الذين أوحوا وزينوا لرئيس المجهورية أن يتخذ هذا القرار المتجاوز لصلاحياته، أعني هؤلاء المستشارين القانونيين المنتمين أو المتعاطفين مع جماعة "الإخوان" ممن مازال مهيمناً عليهم مذهب أن الحاكم المسلم هو القاضي الأعلى الذي يملك صلاحية إلغاء حكم القضاء بناءً على ما يراه من أوجه المصلحة العامة. وأخشى أن أقول إن هذا هو التصور الحقيقي الذي يستبطنه "الإخوان" لمنصب رئيس الجمهورية أو الحاكم، وإن أظهروا علناً خلاف ذلك، لقد غاب عن هؤلاء أنهم إذا ارتضوا حكماً فلا يجوز لهم أن يرفضوا حكمه إذا لم يكن في مصلحتهم ويقبلوه إذا كان في مصلحتهم، وفي ذلك تناقض معيب.*كاتب قطري
مقالات
التصور الإخواني للرئيس!
16-07-2012