إجماع برلين

نشر في 02-05-2012
آخر تحديث 02-05-2012 | 00:01
 بروجيكت سنديكيت كانت الرحلة التي قمت بها أخيراً إلى برلين سبباً في استحضار ذكريات قديمة لزيارة قمت بها إلى المدينة في عام 1967، عندما كنت طالباً فقيراً وقف متعجباً أمام الجدار الذي أقيم ليفرق بين أفراد مجتمع كامل ويدمرهم طوال عقدين آخرين من الزمان. واليوم تنبض برلين بالحيوية والنشاط وتجدد شبابها، بعد أن أعيد بناؤها بالعمل الجاد بسواعد الشعب الألماني وتضحياته لتوحيد شطري البلاد، وأصبحت موقعاً ملائماً لمؤتمر "معهد الفكر الاقتصادي الجديد"، الذي كنت هناك لحضوره.

وكان موضوع المؤتمر الرئيسي هو "النموذج المفقود"، حيث اجتمع أكثر من ثلاثمئة من خبراء الاقتصاد، وعلماء السياسة، ومحللي الأنظمة، وعلماء البيئة لإعادة النظر في النظرية الاقتصادية والسياسية في استجابة للتحديات والشكوك التي فرضها التفاوت المتنامي، ومعدلات البطالة المرتفعة، والفوضى المالية العالمية، وتغير المناخ. ولقد اتفق الجميع تقريباً على أن نموذج الكلاسيكية الجديدة في الاقتصاد بات معطلاً، ولكن لم يتم التوصل إلى اتفاق على ما يمكن أن يحل محل هذا النموذج.

ولقد أرجع أمارتيا سين الحاصل على جائزة "نوبل" الأزمة الأوروبية إلى أربعة إخفاقات- سياسية واقتصادية واجتماعية وفكرية. فقد أثارت الأزمة المالية العالمية، التي بدأت في عام 2007 كأزمة ناتجة عن قروض الرهن العقاري الثانوية في الولايات المتحدة، والتي اتسعت للتحول إلى أزمة ديون سيادية (ومصرفية) في أوروبا، أثارت تساؤلات لا نستطيع الإجابة عنها، نتيجة لفرط التخصص وتجزؤ المعرفة. ورغم هذا فلا أحد يستطيع أن ينكر أن العالم أصبح مكاناً بالغ التعقيد في مواجهة أي نظرية بسيطة شاملة لتفسير التحولات الاقتصادية والتكنولوجية والديموغرافية والبيئية المعقدة.

وبشكل خاص، كان صعود الأسواق الناشئة بمنزلة التحدي للمنطق الاستنباطي والاستقرائي الغربي. فالاستدلال الاستنباطي يمكننا من التكهن بالتأثيرات إذا علمنا بالمبادئ (القواعد) والسبب. ومن خلال الاستدلال الاستقرائي نستطيع أن نستدل على المبادئ إذا علمنا بالسبب والتأثيرات.

أما التفكير الشرقي فكان على النقيض من هذا قائماً على التقدير (التخمين)، فانتقل من البراغماتية الواقعية إلى تخمين الخطوات التالية. والاستدلال التقديري براغماتي واقعي، ينظر فقط في النتائج، ويخمن القواعد، ويحدد السبب.

ومثلها كمثل التاريخ، فإن النظرية العلمية الاجتماعية تُكتَب بواسطة المنتصرين ويشكلها السياق والتحديات الآنية. ولقد نشأ فِكر السوق الحرة من منظرين أنغلوساكسونيين (العديد منهم من اسكتلندا)، هاجروا واستعمروا الأقاليم الجديدة، الأمر الذي سمح للأفراد الأوفر حظاً بأن يتوصلوا إلى افتراض مفاده أن الاستهلاك لا حدود له. وفي استجابته للمد الحضري والحاجة إلى نظام اجتماعي، أكَّد الفكر الأوروبي القاري على التحليل المؤسسي للاقتصاد السياسي.

وبالتالي، فإن نشوء الاقتصاد الكلاسيكي الجديد في القرن التاسع عشر كان متأثراً إلى حد كبير بفيزياء نيوتين وفلسفة ديكارت، فانتقل من التحليل النوعي لقياس السلوك البشري من خلال افتراض السلوك العقلاني واستبعاد عدم اليقين. ولقد أدى هذا التفكير القائم على "توازن محدد سلفا"- الذي انعكس في الرأي القائل بأن الأسواق قادرة على تصحيح نفسها دوماً- أدى إلى نوع من الشلل السياسي إلى أن حدثت أزمة "الكساد العظيم" في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما اكتسبت حجة جون ماينارد كينز المؤيدة للتدخل الحكومي لمعالجة مشكلة البطالة والفجوات في الناتج قدراً كبيراً من الجاذبية والثِقَل.

وبحلول سبعينيات القرن العشرين، كانت مدرسة التوازن العام الكلاسيكية الجديدة قد استولت على الاقتصاد الكينزي من خلال نماذج القطاع الحقيقي التي افترضت أن "التمويل عبارة عن ستار حاجب"، وبالتالي لم تدرك التأثيرات المزعزعة للاستقرار الناجمة عن الأسواق المالية. وكان خبراء الاقتصاد من أمثال هيمان مينسكي الذين حاولوا تصحيح هذا العيب، موضعاً للتجاهل إلى حد كبير، مع تولي ميلتون فريدمان وغيره قيادة المهنة بالكامل نحو الأسواق الحرة والحد الأدنى من التدخل الحكومي.

ولكن التطورات التكنولوجية والديموغرافية والعولمة كانت سبباً في فرض تحديات جديدة مثيرة عجز النموذج الكلاسيكي الجديد عن التنبؤ بها. وحتى مع اتجاه الدول المتقدمة على مستوى العالم نحو الإفراط في الاستهلاك من خلال الاستفادة من التمويل بالمشتقات المالية، فإن نحو أربعة مليارات من سبعة مليارات نسمة يسكنون كوكب الأرض بدأوا التحرك في اتجاه شريحة أصحاب الدخول المتوسطة، الأمر الذي أدى إلى زيادة هائلة في الطلب على الموارد العالمية وإثارة قضية الاستدامة البيئية.

والآن بات التفكير الجديد مطلوباً لإدارة هذه التغيرات المنهجية الهائلة، فضلاً عن اندماج عمالقة مثل الصين والهند في العالم الحديث. وهناك احتياج واضح إلى تغيير العقلية، ليس فقط في الغرب بل أيضاً في الشرق. في عام 1987، شرح المؤرخ راي هوانغ هذا الأمر في ما يتصل بالصين:

"مع دخول العالم إلى العصر الحديث، فإن أغلب الدول الخاضعة للضغوط الداخلية والخارجية تحتاج إلى إعادة بناء نفسها من خلال تغيير أساليب الحكم المتأصلة في الخبرة الزراعية والاستعانة بمجموعة جديدة من القواعد المستندة إلى التجارة... بيد أن القول أسهل من الفعل. ذلك أن عملية التجديد قد تؤثر على الطبقات العليا والسفلى، وهي تشكل ضرورة حتمية لإصلاح الروابط المؤسسية بينها. وغالباً يكون التدمير الشامل هو النظام هنا؛ وقد يستغرق الأمر عقوداً من الزمان لإتمام العمل".

وباستخدام هذا الإطار التاريخي الكلي، يمكننا أن نرى الانكماش الياباني، والديون الأوروبية، بل وحتى الربيع العربي، كمراحل في التغيرات المنهجية داخل الهياكل المعقدة المتفاعلة فيما بينها في إطار نظام عالمي جديد ومتعدد الأقطاب. وفي نفس الوقت، نشهد نوعاً من التقارب العالمي (تضاؤل فجوات الدخول والثروات والمعارف بين الدول) والتباعد المحلي (اتساع فجوات الدخول والثروات والمعارف داخل كل دولة).

وتتصارع الأنظمة المتكيفة مع النظام والإبداع مع تطورها. وعلى حد تعبير الفيلسوف برتراند راسل: "فإن نشر الأمن والعدالة يتطلب فرض سيطرة حكومية مركزية، ولابد أن تمتد هذه السيطرة إلى خلق حكومة عالمية إذا كان لها أن تفرض نفسها بفعالية. وعلى النقيض من هذا فإن التقدم يتطلب النطاق الأقصى من المبادرة الشخصية المتوافقة مع النظام الاجتماعي".

إن العالم مقدم على موجة جديدة مما أسماه الاقتصادي جوزيف شومبيتر "التدمير الخلاق": فحتى في حين تناضل البنوك المركزية في محاولة للحفاظ على الاستقرار من خلال إغراق الأسواق بالسيولة، فإن الائتمان الذي تحتاج إليه الشركات والأسر بات في انكماش مستمر. ونحن نعيش في عصر من الخوف من التضخم والانكماش في نفس الوقت؛ من الازدهار غير المسبوق واتساع فجوة التفاوت؛ ومن التقدم التكنولوجي ونفاد الموارد.

ومن ناحية أخرى فإن الأنظمة السياسية القائمة تعد بفرص العمل المجزية، والحكم الرشيد، والبيئة المستدامة، والوئام الاجتماعي من دون تضحيات- فردوس يسكنه ركاب المجان من ذوي المصالح الشخصية، وهو فردوس من المستحيل أن يستمر إلا بالتضحية بالبيئة الطبيعية ورفاهة الأجيال المقبلة.

ولا يمكننا تأجيل الآلام المترتبة على التعديل والتكيف إلى الأبد عن طريق طباعة النقود. ذلك أن تحقيق الاستدامة أمر غير وارد إلا عندما يصبح من يملكون راغبون في التضحية من أجل من لا يملكون.

لقد انتهى "إجماع واشنطن" لإصلاحات السوق الحرة في الدول النامية قبل أكثر من عقدين من الزمان. ولقد أظهر مؤتمر "معهد الفكر الاقتصادي الجديد" في برلين الحاجة إلى إجماع جديد- الإجماع الكفيل بدعم التضحية التي تصب في مصلحة الوحدة. ومن المؤكد أن أوروبا في احتياج إلى مثل هذا الإجماع.

أندرو شنغ

* رئيس معهد فونغ العالمي.

«بروجيكت سنديكيت» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top