حين برزت لأول مرة علامة ماكدونالدز الشهيرة، أوائل التسعينيات من القرن المنصرم في منطقة الخليج والسعودية تحديداً، كان الحدث ثقافياً بالدرجة الأولى، وليس مجرد نقلة اقتصادية لإحدى شركات العالم الكبرى، لذلك كتب الشاعر الراحل نزار قباني مقالاً في إحدى الصحف العربية يستقصي من خلاله الموضوع، متأملاً رمزية الحدث، فها هي العلامة الصفراء بخطوطها المعروفة تكسر الحصار، وتؤكد حرية انتقال الثقافة، ومن ثم التعاطي مع عصر السرعة، وفي موازاة ذلك مكاسب مادية ضخمة تعود إلى أحد رموز الأمركة الحديثة، مع الأخذ في الاعتبار معطيات أخرى، مساندة للنقلة الثقافية الحديثة من قبيل صناعة الأفلام الأميركية، وانتشار اللغة الإنكليزية باعتبارها إحدى قنوات العلم، وعلامات التحضر والانفتاح، وكذلك شركات المشروبات الغازية، ومنتجات التكنولوجيا التي كانت في بدايتها تقريباً "أوائل التسعينيات".
هذه الحقبة التسعينية لم تشهد النقلة الثقافية بسلسلة المطاعم المشار إليها فحسب، بل هي رديفة لأحداث سياسية أخرى تجعلنا نطلق عليها من دون تردد العصر الذهبي "للحرب الناعمة"، هذا المصطلح الذي يسير بنا في تعرجات عديدة من دون الوصول إلى تعريف محدد، وبرأيي فإن هذه الهلامية هي أحد رموز الجدل الثقافي المعاصر، سواء في الفكر والفلسفة، أو مجالات أخرى أكثر خضوعاً للخيال والإبداع مثل الشعر، والمسرح والسينما. أياً ما كان الموضوع، فإن الحرب الناعمة، أو القوة الناعمة، أو الغزو الثقافي، مع ما يحتمله هذا الأخير من صدام أو خشونة، تنتهي جميعها إلى حالة واحدة هي استبعاد فكرة الصراع التقليدي، والانتقال إلى حرب أخرى أكثر نعومة تكون عبر الإعلام، والأزياء، والسينما، والمسرح، ومن ثم المأكولات، ونمط العيش، كلها، أمور تكرس الهيمنة الإعلامية للطرف الأقوى، وتجعل المجتمعات المغلوبة على أمرها، ومن بينها العالم العربي، تأخذ دور التابع والمتأثر، وليس المؤثر. واللافت أن مقولة صمويل هنتغتون "صدام الحضارات" سنة 1993، وهي السنة ذاتها التي شهدت انتشار أول مطعم ماكدونالد في المملكة العربية السعودية، وهي الفترة ذاتها التي شهدت انتشار الفضائيات في العالم العربي، بعد أن كانت كل دولة خاضعة لقنواتها المحلية ومتحكمة بها، وهي الفترة ذاتها التي شهدت انهيار الاتحاد السوفياتي، وتفككه إلى دوليات، وما تبع ذلك من حروب عدة في منطقة البلقان، وهي الفترة ذاتها التي شهدت بداية تعرف العالم العربي على الإنترنت، وموجة الهواتف النقالة، أتحدث هنا عن الفترة بين 1990 و1996. قد تكون الهيمنة الأميركية بأساليب جديدة هي محصلة لدراسات وخطط استراتيجية عديدة انتهت إلى عدم جدوى الحرب في صورتها التقليدية، خصوصاً مع بعض المجتمعات ذات الخلفية الدينية، مثلما هو الحال مع العالمين العربي والإسلامي، فحين تتحول الحرب إلى قتال صريح ضد المقدس والديني، فمن الطبيعي أن تستميت الشعوب دفاعاً عن معتقداتها، أما حين يكون الأمر مرتكزاً على ترسيخ فكرة مجردة، تقول بتفضيل أمة على أخرى ثقافياً وعلمياً، واقتصادياً، فإن هذه الشعوب المبهورة بما لدى الغرب، وخصوصاً المبتعثين دراسياً تلجأ إلى التقليد، وإعلاء شأن الآخر المغاير، أو المختلف. في مقال علمي للمفكر الراحل محمد عابد الجابري يستخلص سبباً هاماً أدى إلى رواج فكرة "صدام الحضارات" في مقابل مقولة "نهاية التاريخ" لفوكوياما، المقولة التي لم تأخذ حيزها الكافي من النقاش والشهرة، فما ان انتشرت حتى قضى عليها هنتغتون بنظريته الجديدة، وبحسب الجابري فإن "فكرة "نهاية التاريخ" تبعث على الاطمئنان على مستقبل أميركا، إذ هي تؤكد الانتصار النهائي لليبرالية، الشيء الذي يجعل مثلاً التساؤل عن جدوى تخصيص مبالغ هائلة للدفاع في ميزانية أميركا تساؤلاً مشروعاً، أما أطروحة "صدام الحضارات" فهي تتحدث عن المستقبل، وتنذر بخطر المواجهة، وتدعو إلى أخذ الحيطة والدفاع عن النموذج الحضاري الأميركي". قد يكون هنتغتون ذكيا في اقتناص ما تريده الإدارة الأميركية التي كانت تخطط لحروب عدة، إلا أن هذا الدافع الاقتصادي بالدرجة الأولى أخذ بالتراجع إلى الخلف، وبرزت عوضا عنه القوى الناعمة، هذه القوى التي تجعل المجتمع الأفغاني مثلا يستمتع بالموسيقى الغربية، ويتابع أنشطة أنجلينا جولي الاجتماعية، هذه القوى هي ذاتها التي جلبت إلى العالم العربي نسخة معدّلة من برامج الواقع الاجتماعية والفنية... والبقية تأتي.
توابل - ثقافات
عصر القوة الناعمة
01-07-2012