«الهروب الكبير» عنوان فيلم أميركي أنتج عام 1963 من تأليف جون ستورغس وإخراجه، أحداثه مأخوذة عن قصة حقيقية جرت أثناء الحرب العالمية الثانية، ويروي قصة مجموعة من جنود وضباط دول التحالف، تم اعتقالهم كسجناء حرب في معتقل تابع للنظام النازي، لكنهم ينجحون في وضع خطة للهروب من المعتقل عبر نفق ضخم!

Ad

تذكرت الفيلم، الذي يُعد أحد كلاسيكيات السينما الأميركية، وأنا أرصد ظاهرة اتجاه عدد كبير من نجوم السينما المصرية إلى الشاشة الصغيرة، وقيامهم ببطولة عدد غير قليل من مسلسلات درامية في ما يشبه «الهروب الكبير»، الذي يعكس نرجسية مُطلقة من نجوم لم يكونوا يوماً «أسرى حرب»، لكنهم تعاملوا مع السينما بوصفها «البقرة الحلوب» التي أثروا على حسابها، ونهلوا من نعيمها، وسكنوا الأبراج العاجية من خيراتها، ومع أول أزمة ألمت بها انفضوا عنها وهجروها تاركين إياها تلعق جراحها، وتحاول يائسة أن تلملم نفسها!

وجد نجوم السينما في الدراما التلفزيونية «النفق» الذي يضمن لهم «الهروب الكبير» من أزمة السينما، فما كان منهم سوى أن دخلوا السباق الشرس، سواء الكبار منهم أمثال عادل إمام، محمود عبد العزيز، يحيى الفخراني، نور الشريف، يسرا، ليلى علوي، وإلهام شاهين... أو أبناء جيل الشباب أمثال أحمد السقا، محمد سعد، شريف منير، كريم عبد العزيز، مصطفى شعبان، عمرو سعد وغادة عادل. تمسح الكل في الحالة الاقتصادية المتدهورة التي انعكست سلباً على صناعة السينما المصرية، لكن أحداً، خصوصاً «الكبار»، لم يفكر في رد الجميل إلى هذه الصناعة، أو يفكر في استثمار ملايينه، التي جناها من «البقرة الحلوب»، في إنتاج أفلام تنتشلها من عثرتها!

هربوا جميعاً، بدليل أن من فاته قطار السباق التلفزيوني أمثال محمد هنيدي وأحمد عز، وجد ضالته في المسلسلات الإذاعية، والكل امتلك من الحجج الواهية ما يبرر جريمته في حق السينما، كالقول إنه كان مضطراً إلى تأمين مصدر دخل بعد تدهور أحوال الإنتاج السينمائي، أو الرغبة في التواجد على الساحة الفنية والحفاظ على الموهبة من الصدأ، أو القول إن التلفزيون أصبح وسيلة مهمة للتخاطب والتواصل مع الجمهور، وطرح القضايا الحيوية.

في كل الأحوال، لم يغلب «النجوم» المصلحة العامة على مصالحهم الشخصية، ولم يكشفوا النقاب، مثلاً، عن الأجور الضخمة التي يتقاضاها الواحد منهم في الدراما التلفزيونية، والرغبة في استثمار نسبة المشاهدة العالية التي تتحقق الآن في ظل الانتشار الكثيف للمحطات الفضائية، واعتبار التلفزيون الملجأ الأخير الذي يُحيي آمالهم في البقاء على قيد «الحياة الفنية»، مع اليقين الجازم لدى المنتجين بأن الربح مضمون في حال استثمار الأموال في مجال الدراما التلفزيونية.

الطريف أن بعض النجوم أوهم الرأي العام بأنه «هرب» إلى الدراما التلفزيونية خشية التضييق على الأفلام السينمائية من جانب التيارات الدينية المتشددة، بعد إحكام قبضتهم وسيطرتهم على المشهد السياسي والفني، وكأن الدراما التلفزيونية بمعزل عن ملاحقة التيارات الدينية المتشددة، وتحظى بمباركتها، وهو تصور ساذج لا يمكن تقبله أو تخيل صدوره عن عقلية سوية؛ فالقبضة الغاشمة للتطرف لن تُفرق بين السينما والتلفزيون، وفي حال عدم الاعتراف بالفن أو الإبداع فلن يُعتد بشيء على الإطلاق، والكل سيتساوى في العقاب والازدراء!

الخلاصة أن المتورطين في تنفيذ خطة «الهروب الكبير» إنما فعلوا هذا، فضلاً عن نظرتهم الشخصية الضيقة، لأنهم افتقدوا روح المغامرة واختاروا «اللعب في المضمون»، وبدلاً من أن يمعنوا التفكير، بإخلاص، في الخروج من «النفق المظلم» للسينما المصرية، استخدموا «النفق» لزيادة مكاسبهم المادية والمعنوية، وأوهموا أنفسهم أن «الهروب» أمر «مشروع»؛ خصوصاً أن أزمة صناعة السينما لا تشكل مطلقاً حيزاً من اهتماماتهم، بل تشغلهم مصالحهم الخاصة فحسب.

هذا هو واقع الحال الآن، لكن إذا جدَ جديد وتغيرت الأحوال واختلفت الظروف، واستعادت صناعة السينما عافيتها وهيبتها، فالأمر المؤكد أن عودة «النجوم» إليها ستكون مؤكدة، ووقتها سيعيدون إنتاج الشعارات الرنانة نفسها، ويرددون ذات الخطب العصماء، وسنستيقظ كل صباح على تصريحات لرموزهم على شاكلة «السينما بيتي الحقيقي» و{عشقي الأول والأخير»... وحينئذ علينا إدراك أن «البقرة الحلوب» عادت لتدر لبنها... وخيرها!