كانت زيارة مرسي للأمم المتحدة في نيويورك مهمة للغاية، فرغم تحذيرات السلفيين لمرسي بعدم القيام بالزيارة ورغم تحذيرات الليبراليين بقيادة رفعت السعيد بالحذر من الاقتراب الأميركي، فإن مرسي بشجاعة متناهية قام بهذه الزيارة، وحقق مكاسب كثيرة له شخصياً كرئيس للجمهورية، ولمصر عامة.

Ad

أما ما حققه من هذه الزيارة له شخصياً، فيتلخص في التالي:

1- عدم الالتفاف إلى نصائح وتوجيهات اليمين واليسار المصري. فهؤلاء جميعاً يرددون شعارات ماضوية. ولم يدركوا بعد المعادلات السياسية الجديدة، في هذا العصر، وأن أميركا لم تعد حُكم ريغان، أو بوش، كما أن مصر لم تعد حكم السادات، أو مبارك.

2- كان لقاء مرسي مع الصحافة والإعلام الأميركي فرصة ذهبية، لكي يمحو مرسي الصورة السوداء، والقاتمة السابقة، وينير جوانب من الحكم المدني الجديد لمصر. ومثال ذلك ما قاله في اللقاء الصحافي مع الجريدة المهمة "النيويورك تايمز". ففي هذا اللقاء قال مرسي: "إذا أرادت واشنطن احترام مصر لمعاهدتها مع إسرائيل، فعليها أيضاً إقامة حكم ذاتي فلسطيني. إن على الولايات المتحدة أن تُغيِّر نهجها في التعامل مع العالم العربي، وأن تُظهر المزيد من الاحترام لقيمه، ومساعدة الفلسطينيين في بناء دولتهم، وذلك إذا أرادت التغلب على عقود من الغضب المكتوم". وقال كذلك: "على الولايات المتحدة ألا تتوقع أن تعيش مصر وفقاً لقواعدها، وإذا أرادت أن تحكم على أداء المصريين وفقاً للمعايير الثقافية الألمانية، أو الصينية، أو الأميركية، فلا مجال للحكم. وعندما يقرر المصريون شيئاً، فمن المحتمل ألا يتناسب مع الولايات المتحدة، وعندما يقرر الأميركيون شيئاً، فقد لا يتناسب مع مصر، وأن مصر لن تكون معادية للغرب، ولكنها لن تكون طيعة للغرب، مثل ما كان الأمر أيام مبارك". وتلاوم مرسي على أميركا لوماً شديداً، لأن الإدارات الأميركية المتعاقبة، اشترت كراهية شعوب المنطقة، بأموال دافعي الضرائب، بدعمها الحكومات الدكتاتورية ضد المعارضة الشعبية، ودعمت إسرائيل ضد الفلسطينيين".

والحق- نقول- إن من دعم الدكتاتوريات في مصر عبدالناصر، وعراق صدام حسين، وجزائر بومدين، ويمن عبدالفتاح إسماعيل، وسورية حافظ الأسد، وليبيا القذافي، وسودان جعفر نميري، هو الاتحاد السوفياتي السابق المنهار، وليس أميركا التي دعمت الأنظمة الملكية المحافظة، في العالم العربي. فكان على مرسي أن يكون أكثر دقة سياسية في تعليقه ذاك، أم أن العداء المستحكم مع أميركا منذ أربعينيات القرن الماضي حتى الآن، هو ما دفع مرسي إلى اتخاذ هذا الموقف؟ وهو الموقف السياسي "المخزي"، الذي دفع "الإخوان المسلمين" في 1990- 1991 إلى الوقوف إلى جانب صدام في غزوه الغاشم للكويت ولشرق السعودية، نكاية بأميركا، مما أفقد "الإخوان" الدعم المالي والسياسي الخليجي بصفة عامة، وكَسَرَ جرة العسل "الإخوانية"، وأصبح "الإخوان" بذلك "بلاءً بعد أن كانوا دواءً"، كما قال الراحل الأمير نايف بن عبدالعزيز وزير الداخلية السعودي السابق (صحيفة "السياسة" الكويتية، 13/ 11/ 2004).

3- يعتقد مرسي و"الإخوان" أن رضا أميركا عن أدائهم السياسي في مصر، كان في الماضي، هو العائق لوصولهم إلى السلطة، وأن رضاها اليوم سيكون دافعاً لهم للوصول الى هذه السلطة، فهم لا ينكرون الأثر السياسي الأميركي في المنطقة، ودور أميركا في الهندسة السياسية العربية. فكانت زيارة مرسي لأميركا كأول رئيس مصري منتخب، مفيدة لمرسي الذي حاول من خلالها تقديم نفسه، وتقديم الفكر السياسي الإخواني الجديد إلى الرأي العام الأميركي، من خلال (الإخوان الجُدد Neo-Bros) الذين يمثلهم اليوم مرسي.

أما ما حققه مرسي من هذه الزيارة لمصر فيتلخص في التالي:

1- إذابة الجليد المتراكم منذ 1952 على العلاقات الأميركية- المصرية، رغم الانفراج السياسي الذي حدث في عهد السادات- كارتر، وأدى إلى توقيع معاهدة "كامب ديفيد" 1978.

2- لقاء مرسي بالجالية المصرية الكبيرة في أميركا، وتأكيده في لقائه المطوَّل مع هذه الجالية على نقطتين: الأولى، ألا تفرقة بين المسلمين والأقباط إلا بحدود القانون. وألا امتيازات خاصة تُمنح للأقباط، لأنهم مواطنون مصريون "عليهم ما علينا، ولهم ما لنا". والثانية، أهمية الدعم المالي المصري من قبل المهاجرين لمصر، واشتراكهم في التنمية، والاستثمار المُجدي.

3- دعوة الشركات والمستثمرين الأميركيين إلى العمل والاستثمار في مصر، على غرار ما فعلوه في الصين الجديدة. والتأكيد على سن تشريعات مصرية، من شأنها تسهيل عمل المستثمرين، مع ضمان أموالهم واستثماراتهم.

عودة إلى موقف الليبراليين

في مقالنا السابق، في الأربعاء الماضي، وعدنا بإكمال عرض موقف الليبراليين المصريين، من عهد مرسي، من خلال مقال رفعت السعيد، الزعيم السياسي الليبرالي المصري المعروف، الذي كان عبارة عن رسالة تحذيرية لمرسي، مما هو قائم، ومما سيقوم.

اختتم السعيد رسالته السابقة لمرسي قائلاً، من وجهة نظر ليبرالية محضة:

"أحذرك من فقر الفقراء، وأن يُلهيك عنهم أحاديث ترفض الحد الأدنى للأجور، بزعم نقص الموارد، وترفض الحد الأقصى للأجور بزعم عدم إغضاب الكبار، وترفض الضرائب التصاعدية، بزعم تشجيع المستثمرين، ويحقنونك كل يوم بوهم أن الأمور ستهدأ، وأن العمال سيمتنعون عن المطالبة بخبز لأطفالهم لمدة عام، وهو ما لن يحدث... فهل يصبر أبٌ على جوع أطفاله، لمدة يوم واحد، وليس عاماً كاملاً؟

ثم تتمادى عمليات إفقار الفقراء، لتصل إلى تجويع الفقراء، فيُغريك خبراء [جماعتك] برغيف العشرة قروش، فحذار... حذار من أن تمس رغيف الخبز، واحذر ثورة الجياع، فلا أنت، ولا [جماعتك]، ستقدرون على مواجهتها". ومن الملاحظ، أن السعيد نسي أو تناسى، أن الذين أوصلوا مرسي إلى كرسي الرئاسة هم الفقراء والعمال البسطاء، فقد كان "المثقفون"، ورجال الأعمال، والإعلام، والمشتغلون بالفن، وأثرياء الحزب الوطني السابق ضد مرسي، ووصوله إلى سدة الرئاسة. ومن هنا، يحرص مرسي على تقليص نسبة الفقر والفقراء في مصر بقدر الإمكان، ولا نقول القضاء على الفقر، فمصر، فقيرة منذ آلاف السنين، ومن الصعب القضاء على الفقر في بلد كمصر، يزداد عدد سكانه (أصبحوا أكثر من 90 مليوناً الآن) بفعل التديُّن الشعبي، الذي عرضته الباحثة التونسية زهيّة جويرو في كتابها "الإسلام الشعبي"، وبفعل التركيبة السكانية التي تشير إلى أن 70% من المصريين يعيشون في الأرياف حيث ينتشر التديُّن الشعبي. وبفعل قلة موارد مصر الطبيعية، وشح المياه، بالنسبة لعدد السكان المتزايد بشكل مطرد. ومرسي رئيس حريص على ولايته، وعلى حزبه، وعلى بلده، وسيعمل من خلال هذا الحرص.

* كاتب أردني