اختطاف المساجد
لقد وضح إسلامنا وحدد ورسم معالم الطريق للدعوة، وهو إذ دعا إلى الاهتمام بأمر المسلمين فإنه أراد وقصد ما يقربهم ويزيدهم تعاوناً على إصلاح أوضاعهم لا أن نتخذ من المنبر فيما يفرقهم ويزيدهم انقساماً وكراهية، يجب ضبط المنابر الدينية ومراقبتها ومساءلة الخطباء الذين لا يلتزمون بآداب الدعوة من قبل الجهات المعنية.
ما ان يصل حزب ديني إلى السلطة أو البرلمان حتى يبدأ أولى خطواته التكتيكية بالاستحواذ على المزيد من المساجد والاستيلاء على منابرها لتسخيرها لتوجهاته السياسية والإيديولوجية لكسب أتباع جدد والتأييد الشعبي، فيما سمي بظاهرة "اختطاف منابر المساجد" التي تعد أحد إفرازات الربيع العربي الذي حمل الإسلاميين إلى السلطة.الحزب الديني السياسي حزب "احتكاري" يهدف إلى احتكار منابر المساجد لمصلحة خطبائه وإقصاء الآخرين، وفي سبيل ذلك يدخل معارك ضارية مع المؤسسة الدينية الرسمية والأحزاب الدينية المنافسة، يتجلى ذلك في مصر اليوم على سبيل المثال بعد صعود "الإخوان" و"السلفيين" حيث تدور رحا "معركة ضروس" بينهما للاستحواذ على أكبر عدد من المساجد التابعة لوزارة الأوقاف، وهي أكثر من 112 ألف مسجد بعد تحررها من القبضة الأمنية. ورغم أن "الإخوان" و"السلفيين" فتحت أمامهما كل المنابر للتواصل الجماهيري فإنهما لم يتخليا على المساجد التي تعتبر مجالهما الاستراتيجي الحيوي، هذا الصراع السياسي للسيطرة على المساجد واستغلالها سياسياً يذكرنا بالصراع الذي دار بالأمس بين حركتي "حماس" و"الجهاد" بشأن شرعية الحوار مع إسرائيل وأميركا، وكانت منابر المساجد هي ميادين المعركة، كذلك حرب الفتاوى بشأن "صلاة العراء" بين "حماس" و"فتح"، إذ استولت "حماس" على المساجد بالقطاع وشنت حملة سياسية عبرها ضد خصمها "فتح" فلم يجد نصراء وخطباء "فتح" إلا العراء لإقامة صلاة الجمعة والتصدي لـ"حماس"، فما كان من أنصار "حماس" ومشايخها إلا أن أفتوا بعدم جواز صلاة العراء بينما أيد قاضي قضاة فلسطين ومشايخ الضفة جواز صلاة الجمعة خارج المسجد مستدلين بقوله صلى الله عليه وسلم "وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً"، وتناست "حماس" أنها عندما كانت في المعارضة على امتداد 15 عاماً كانت تستخدم الساحات العامة لصلاة الجمعة وخطبتها التي تستغلها في الهجوم على حكومة "فتح"، فلما وصلت إلى السلطة في انقلاب دموي وانفردت بحكم غزة ونكلت بغريمتها وطردتها انقلب موقفها ووظفت منابر المساجد في صراعها السياسي ضد "فتح".هذا التوظيف الذي يسيء إلى منابر بيوت الله تعالى يجب أن يستوقفنا ويدعونا والمعنيين كافة بأمر المساجد والمسؤولين عنها إلى تساؤلات عدة: لماذا هذا التوظيف السياسي للمساجد؟لماذا هذا الاستثمار الانتهازي للدين؟ لماذا هذا الاستغلال المسيء لبيوت الله تعالى؟ لماذا تسعى التيارات الإسلامية إلى تحويل منابر بيوت الله إلى ساحة لمعاركها السياسية؟ لماذا تأجيج الخلافات المذهبية وإثارة النزاعات السياسية وتهييج الجماهير وتعميق الكراهية بين الأطياف المجتمعية؟ إلى متى نسكت عن تحويل مساجدنا إلى ساحة لصراعاتنا العبثية؟ لماذا لا يحرص الجميع على قدسية وحرمة بيوت الله تعالى كونها بيوتا للعبادة الخالصة والسكينة والأمن والطمأنينة التي يلجأ إليها المسلم ويلوذ بها في هذا العالم المضطرب؟ لماذا لا تتفق التيارات السياسية والدينية كافة على "ميثاق شرف" تظل المساجد بموجبه بمنأى عن الخلافات السياسية؟لقد طال التسييس كل مناحي حياتنا حتى بيوت الله تعالى فاستغلت في غير أهدافها ووظائفها الشرعية، المساجد لله تعالى وليست لحزب سياسي أو جماعة دينية فبأي حق أو مبرر يعتدي هؤلاء على قدسية المساجد؟! يقول الله تعالى "وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحداً"، وهؤلاء قد اختطفوا المساجد لأهوائهم السياسية وحولوا منابرها إلى منابر إعلامية تبث طروحاتهم وأفكارهم الحزبية الضيقة. نحن اليوم خصوصا في بلاد الربيع العربي امام انفلات "دعوي" كبير وعلى الحريصين تدارك الأمر واحتواؤه، لقد أصبح الخطباء المسيسون في ظل هيمنة الإسلاميين، يوظفون المنابر والفضائيات بحسب ألوانهم السياسية وتحول الخطيب إلى محلل سياسي يفتي في قضايا سياسية ويتدخل في شؤون الآخرين ويهدد ويتوعد ويستنكر ويحرم ويغضب ويزبد، يخاصم ويهاجم ويتهم ويهدر الدماء ويحرض على القتل ويستغل منبر بيت الله تعالى ويحوله إلى منبر سياسي خاص به من غير حسيب أو رقيب أو مساءلة من قبل الرأي العام أو الجهات الرسمية المسؤولة!منابر بيوت الله تعالى التي لها هيبتها ومكانتها وتبجيلها التي هي منارات للهدى والإيمان والنور وإصلاح ذات البين وجمع كلمة المسلمين وتعميق مشاعر المودة بينهم تحولت على يد الخطباء المسيسين إلى منابر لتأجيج الطائفية والمذهبية وتعميق الكراهية وتهييج الجماهير وزيادة الفرقة والانقسام بين المسلمين وإفساد ذات البين والإساءة إلى العلاقات بين الدول الشعوب، أليس عجباً أن الأطياف الأخرى كافة تحترم وتقدس دور عباداتها وتحرص على إبعادها عن الخلافات السياسية والدينية إلا نحن؟! أليس من المحزن أن يكون أتباع الأديان الأخرى السماوية والوضعية مجمعين ومتفقين على صيانة دور عباداتها وأن تكون بمنأى عن قضاياها الجدلية، بينما التيارات السياسية الإسلامية تحرص على توظيف مساجدها في أهداف سياسية حزبية؟!يكاد المسلمون أن يكونوا هم الأمة الوحيدة التي تحول منابرها الدينية إلى منابر للمبارزة بين الخطباء الذين يتنافسون في فرض وصايتهم على الناس! لطالما حذرنا من خطورة توظيف المنبر الديني واسثماره في سوق السياسة، فكان المدافعون عن هذا التوظيف يجيبون بأن الإسلام لا ينفصل عن السياسة، وأنه ليس ديناً روحانياً كالمسيحية لا علاقة له بالدولة والمجتمع!حسناً، نحن نؤمن بأن الإسلام لا ينفصل بقيمه وتعاليمه وتوجيهاته عن الشأن الدنيوي ومن لا يهتم بأمر المسلمين فليس منهم لكن ذلك ليس معناه أن يوظف كل حزب سياسي منبر المسجد في قضاياه الحزبية، لقد وضح إسلامنا وحدد ورسم معالم الطريق للدعوة، وهو إذ دعا إلى الاهتمام بأمر المسلمين فإنه أراد وقصد ما يقربهم ويزيدهم تعاوناً على إصلاح أوضاعهم لا أن نتخذ من المنبر فيما يفرقهم ويزيدهم انقساماً وكراهية، يجب ضبط المنابر الدينية ومراقبتها ومساءلة الخطباء الذين لا يلتزمون بآداب الدعوة من قبل الجهات المعنية.كما ينبغي تجريم استخدام المنابر في غير أهدافها الشرعية مثل الترويج لأجندة حزبية أو إيديولوجية أو طائفية أو اتخاذها وسيلة للطعن في معتقدات المخالفين أو اتهام الخصوم السياسيين.* كاتب قطري