منذ بدأت الكتابة في منتصف السبعينيات وأنا عاشق لمجالسة المبدعين والاستماع لآرائهم وقناعاتهم الحياتية، وكيفية ترجمة ذلك فناً وأدباً مبدعاً. ففي جلسة واحدة، قد تصدر جملة عفوية عن المبدع فتفتح أمامي آفاقاً طالما حرت في كيفية ولوج عالمها. ولم يزل هذا العشق يسكن خاطري، ساعياً إلى الوصول والتواصل مع المبدعين الذين تركوا بصمة واضحة على مسيرة الأدب والفن في الوطن العربي.

Ad

في ملتقى أغادير للرواية، الذي انعقد في الأسبوع الأخير من شهر مايو الماضي في بلدة أغادير المغربية، سعدت بمقابلة كاتب القصة المبدع أحمد بوزفور، لأول مرة، الذي يعد بحق أحد أهم كتّاب القصة القصيرة العربية في الوقت الراهن، ووجدت فيه شخصاً خلوقاً يكاد يخجلك بتواضعه ووصله الإنساني الجميل.

سنوات وأنا أقرأ لبوزفور، وأقف ملياً أمام قصصه القصيرة التي تتخذ من طول المغرب وعرضه مكاناً وبيئة وحدثاً ولغة لها، وترى في تداخل الواقعي بالفنتازي طريقاً لخلق قصة قصيرة ساحرة، تأخذ بلب القارئ، وتضعه على حافة أسئلة كبيرة تمس حياته.

بوزفور يكتب عن شخوص حقيقية نلتقي بها في كل شارع وحي وبناية ومقهى في المغرب، مسكونة بوجع الواقع المعيشي المضطرب والقلق، ليقدمها بثوب القصة الملغومة بالأسئلة، والمفتوحة على معاناة الإنسان البسيط الذي تختصر كل المعاناة الإنسانية. ولهذا يُنظر إلى أحمد بوزفور بوصفه كاتباً عالمياً إنساني النزعة، حيث ترجمت قصصه لأكثر من عشرين لغة أجنبية. ويمكن لمن يعشق فن القصة القصيرة أن يعيش مغامرات أحمد بوزفور الحياتية والإبداعية في كتابه "ديوان السندباد"، الصادر عن "منشورات مجموعة البحث في القصة القصيرة بالمغرب"، الطبعة الثانية 2009، ويضم خمس مجموعات هي: "النظر في الوجه العزيز"، "الغابر الظاهر"، "صياد النعام"، "ققنس"، "قالت نملة".

الكاتب الثاني الذي سعدت بتجدد لقائي به هو القاص السوري زكريا تامر، في تظاهرة "وطن يتفتح في الحرية"، التي عقدت في الدوحة من 1 إلى 8 يونيو الجاري، وقد تعرفت على زكريا تامر مع بدء قراءاتي للقصة القصيرة، وسرعان ما عقدت مقارنة بينه وبين المبدع يوسف إدريس، لأبقى أنظر إليهما بوصفهما أهم من كتب القصة القصيرة الحديثة في الوطن العربي، إضافة إلى محمد خضير.

العشرات وربما المئات قلّدوا يوسف إدريس في كتاباتهم، لكن زكريا تامر ظل، لما يزيد على الخمسين عاماً عصياً على أي تقليد، يبدع قصصاً لا تشبه إلا نفسها، ولا تنتمي إلا لمدرسته. فهو يكتب قصة الحارة الدمشقية، وكأنه لم يفارقها يوماً، مع أنه تغرب في إنكلترا لأكثر من ثلاثة عقود. وفي لقائنا الأخير قال لي: "ما كتبت قصة واحدة عن إنكلترا"، وسكت لثوان قبل أن يبيّن: "ليس بإرادتي، أنا اكتب عما يجري في عروقي، ووحده الشام يسكنني وأسكنه".

زكريا تامر، في سنواته الثمانين، يحمل إرثاً إبداعياً كبيراً ومتنوعاً، وهو في كل ما كتبه في القصة والمقال كان إلى جانب قضايا الإنسان والحرية والحب والخير، ولقد تكلم في أكثر من جلسة قائلاً: "زكريا ملف مفتوح، ولن يجد كائن من كان كلمة واحدة كتبتها إلا وتدين الطاغية والدكتاتورية". وتلوح نظرة أعرفها في عينيه وهو يبوح: "كم عانيت وعانيت في سبيل كتابة كلمة حق لا تحابي أحداً".

إن كتابة زكريا تامر للقصة القصيرة، تنتح من بئر الواقع المر، لتنثر عليه شذرات الفن الساحرة فتحيله فناً عذباً يمسّ الروح ويبقى حاضراً في البال والفكر. ومؤكد أنه أحد أهم الكتّاب العرب الذين اشتغلوا بكتابة قصة الطفل، وأبدع فيها كما لم يبدع كاتب عربي آخر.