مارست العمل الدبلوماسي والسياسي على مدى ثمانية وثلاثين عاماً في مدن  وعواصم واجهت في الكثير منها تحديات مختلفة، لعل أكثرها قسوة تلك الفترة التي قضيتها في الجزائر أثناء الاحتلال العراقي الغاشم لبلدنا العزيز، حيث كنا في مواجهة مع تيار جارف من الحقد والكراهية ومن جميع المكونات والأطياف، ولعل أشدها كانت الجماعات الإسلامية.

Ad

وكم يؤلمنا ان نرى بعض أبناء الكويت من يدافع أو ينتمي إلى هذه الجماعات مع علمه بموقفها المساند والداعم للعدوان والاحتلال هل هانت عليكم الكويت هل تناسيتم معاناة أهلنا وأطفالنا ونسائنا؟ هل تناسيتم الاعتداءات على شهيدات الوطن وما تعرضت له الدولة من تدمير؟!

ليتهم كانوا معنا في ذلك الوقت ليسمعوا دعاء القنوت في المساجد والتجمعات حين كانوا يدعون على الكويت وأهلها، وبعد كل ذلك ندافع عنهم هذا الدفاع المستميت الذي كنا نتمنى أن يكون للدفاع عن كويتنا الغالية.

بعد انتهاء فترة عملي في الجزائر انتقلت إلى العمل في كل من اليمن والأردن حيث استمر التحدي في مجتمعات تعج بتيارات حزبية وتوجهات قومية مختلفة إضافة إلى ذلك كان هناك تحدٍّ من نوع آخر تمثل في أوضاع أمنية غير مستقرة كما هو الحال في اليونان وبلغاريا وفنزويلا، أضف إلى ذلك تحدي النقل والانتقال مع الأسرة والأولاد مع اختلاف العادات في تلك المجتمعات، وأيضاً التنقل بين عواصم الدول التي كنت أشغل فيها سفيراً محالاً مثل كولومبيا وبيرو والإكوادور ومولدوفيا والنيجر والبرتغال والبوسنة طوال تلك الاعوام كان العمل الدبلوماسي والسياسي يمثل قمة السعادة والمتعة ولم أشعر قط بالسأم أو الكدر بالتحدث فيها.

أما في الفترة الأخيرة التي قضيتها في البلاد فقد أحسست بالسأم من الحديث في السياسة حتى أصبح الماء الذي نشربه مذاباً به "محلول سياسة"، أما الهواء الذي نتنفسه فقد غدا ملوثاً بغازات خطيرة من السياسة ذات الاتجاهات المختلفة. ولعله من أشد ما يؤلم أن نستمع إلى حديث اطفالنا وقد دخلت عليه بعض المفردات والعبارات التي ترد في الحوارات والتصريحات والمسيرات!

والآن وبعد هذا السرد لنبتعد قليلا عن السياسة برواية هذه القصة التي لا تبتعد كثيراً عن الأسطورة؛ فبعد قضاء ما يزيد على أربع سنوات في مدينة الرياض العزيزة مديراً لمكتب دولة الكويت التجاري صدر قرار كريم بنقلي للعمل في سفارتنا في اليونان، وكان يتولى رئاسة البعثة سعادة السفير محمد سالم البلهان، في اليونان بدأت رحلة الألف ميل، فقمت بزيارة العديد من الأماكن والجزر اليونانية الرائعة، كما قمت بتكوين شبكة من الأصدقاء في المناطق المختلفة ولعل من أروع الأماكن التي قمت بزيارتها جزيرة "سانتوريني" وجبال "برناسوس" وقرية تركالا وقناة كورنثوس التي يدور حولها الكثير من الأساطير.

في إحدى تلك الجولات قمت بزيارة لقرية صغيرة تقع في حضن أحد الجبال وتسمى قرية "سانت جون"... في الساحة الرئيسية للقرية تقع كنيسة تتمتع بتصميم غاية في الروعة، فالمبنى مغطى بالرخام والجير الأبيض وأبواب خشبية رائعة، أما الشبابيك فهي من الزجاج الملون، أمام مدخل الكنيسة رأيت طابوراً من الناس يصطف للدخول للكنيسة، فوقفت معهم... وكم كانت مفاجأة غير متوقعة عندما رأيت ذلك الطابور يقوم بالدوران حول ضريح من الزجاج مسجي بداخله قديس بكامل ملابسه ما عدا الصدر الذي بدا مفتوحاً ويمكن مشاهدة جميع أعضاء الصدر ما عدا القلب!

بعد أن انهيت مهمة الدوران ذهبت إلى أحد الرهبان الذي كان جالساً في إحدى الزوايا يتعبد، فاستأذنت منه للحديث معه فرحب بابتسامة وتواضع أهل الدين، فبادرته بالاستفسار عن سبب عدم وجود القلب داخل الصدر، فأجاب بأن لذلك قصة وبدأ في سردها قائلاً: إنها قصة أقرب ما تكون إلى الأسطورة وقد حدثت في الماضي البعيد عندما وصل إلى هذه القرية قديس يدعى جون أو "ياني" باللغة اليونانية، فوجد أهلها وقد نهش الفساد قلوبهم ودمر المنكر عقولهم وكانوا يعملون المعاصي بكل أنواعها، وقد كانت القرية تعاني شح الأمطار ونقص الغذاء وانتشار الأمراض فكانت حياتهم فيها الكثير من الضنك والضيق، فقام ذلك القديس بنشر دعوة الحق والإيمان بالخالق فاستطاع بأسلوبه وتواضعه كسب الناس فتعلقت قلوبهم بالله والإيمان به فتلاشت أعمال المعاصي وحل مكانها التسامح والحب وبدأت حياتهم في التغيير، وهطلت الأمطار، ونزلت الثلوج، وبدأ الخير يعم القرية واختفت الكثير من الأمراض. وبعد أن استتب الأمر للقديس دعا أهل القرية لمساعدته في بناء هذه الكنيسة التي نحن بداخلها الآن، فرحب الجميع بذلك، وبدأ العمل كل في مجاله، وتم تشييد هذه الكنيسة الرائعة التي غدت منبر اتصال مع الخالق جلت قدرته، عز على الشيطان أن يرى أهل القرية وقد صَفت قلوبهم وتسامت أرواحهم فقرر ان يقتل ذلك القديس ليس بيده ولكن بيد أهل القرية!

فتمثل الشيطان في صورة رجل ورع وتقي، وبدأ يبث سمومه بدعوى أن القديس سيموت قريباً وذلك نظراً لكبر سنه، وعندها ستعود القرية إلى حالة الضيق والضنك والفساد وارتكاب المعاصي، وأن أفضل طريقة لديمومة هذا الخير أن يتم قتل القديس وأخذ قلبه وعمل منه حساء يشربه أهل القرية ليكون بداخل كل منهم جزء من ذلك القديس!

في بداية الأمر لم ينسق أهل القرية وراء هذه السموم، لكن في نهاية المطاف وبعد إلحاح من الشيطان فقد انجرف أهل القرية إلى تلك الخطيئة فقاموا بقتل القديس وأخذوا قلبه وعملوا منه الحساء، بعدها بحثوا عن ذلك الرجل الورع فلم يجدوا له أثراً، فأدركوا أنهم قد وقعوا في فخ الشيطان، فندموا على ذلك وتكفيراً لذنبهم فقد قاموا بتشييد هذا الضريح وسجوا فيه جسد ذلك القديس وقاموا بالدوران حوله طلبا للمغفرة، وقد توارث هذه العادة الأبناء والأحفاد وإلى يومنا هذا!

هذه قصة، أو أسطورة، تلك القرية اليونانية الصغيرة وفيها الكثير من المعاني والعبر.

وليحفظ الله الكويت وقيادتها وأهلها من كل شيطان رجيم.