فجر يوم جديد: عودة الكل» الضال!
بدا الوضع مختلفاً هذه المرة! فقد اعتدت في العروض الخاصة للأفلام السينمائية أن أغادر القاعة متسللاً كي أتجنب مصافحة المخرج، ومن ثم أجنب نفسي حرج التورط في الإدلاء برأي عاطفي متسرع، فضلاً عن كراهيتي الشديدة لمبدأ المشاركة في «الزفة الإعلامية» التي تتكرر كثيراً في تلك المناسبات، ورغبتي في التريث حتى أعيد تقييم الموقف وأصل إلى رأي موضوعي حيال الفيلم!
لكن هذه المرة وجدت نفسي أقتحم مجموعة من الشباب الذين تجمعوا بعد العرض لمناقشة الفيلم، وسألتهم بجرأة لم أعهدها في نفسي: «ألا تدلوني على المخرج أدهم الشريف؟»، وإذا بشاب نحيف بشوش الوجه يبادرني بثقة لا ينقصها التواضع: «أنا أدهم الشريف»، وصافحته مهنئاً ومباركاً تجربته السينمائية الأخاذة التي لا تعكس موهبته كمخرج فحسب، وإنما تؤكد قدرته الفائقة على اختيار الأفكار التي تعكس تمرده على السائد، ونزوعه الفطري إلى الانقلاب على المألوف، والبحث الدؤوب عن الجديد والمختلف. في تجربته التي وصفتها بلا مبالغة بالأخاذة، يقدم المخرج الشاب أدهم الشريف فيلماً تسجيلياً بعنوان «أحد سكان المدينة» (16 دقيقة و16 ثانية) يبدأ بتعليق صوتي شاعري يحكي فيه «الراوي» عن أصوله وجذوره، وعن القاهرة مسقط رأسه، التي يعرف دهاليزها وكل شارع فيها، والفوضى التي تضرب أرجاءها «لون على لون يعميها» والتلوث الذي يدمر وجهها «نفس على نفس يخنقها»، وباللغة الشاعرية الوصفية نفسها يبدأ الراوي في تعريف نفسه كأحد سكان المدينة، ويؤكد أنه «ابن ناس صعلوك» ولكنه «حر»، وعليه إذا أراد الحفاظ على حريته أن يكون صاحب أنياب وأظفار! هنا لا بد من أن تتملكك الدهشة لغرابة ما يحدث أمامك على الشاشة، خصوصاً أن الكاميرا تبنت زاوية رؤية منخفضة للغاية، وكأنها وضعت على «زحافة» أو لوح خشبي مسطح بعجلات، وسرعان ما تتراجع الدهشة ليحل مكانها الانبهار بعدما تكتشف كمتابع للصورة أن «أحد سكان المدينة» أو «الراوي»، الذي يُحدثك عن نفسه، مجرد «كلب»، وأنك حيال فيلم عن السيرة الذاتية لـ «كلب ضال» ولد في القاهرة، وفيها تعرف إلى «جماعته» أو زوجته، التي وصفها بأنها «رجولة» و»بنت بلد حقيقية»، والتقى صديق عمره الذي استلطف الكلبة «جميلة» وارتبط بها عاطفياً! فكرة مبتكرة تؤكد أن الشريف صاحب خيال خصب، وأن لغته السينمائية كمبدع تتجاوز المتوقع منه كشاب يبدأ أولى خطواته؛ فقد قدم الفيلم ضمن مشاريع التخرج في المعهد العالي للسينما لعام 2011، لكنه قطع من خلاله شوطاً كبيراً بعدما جمع في معالجته بين إبداع الفكرة وزخم الصورة، ونجح في رصد المدينة ليلاً بأنوارها وظلامها، ونهارها بإزعاجه وضجيجه، ناهيك بالتمكن الواضح في حركة الكاميرا (بسام إبراهيم) وهي تتجول مع الكلاب من شرق المدينة إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها، وتصبح طرفاً أصيلاً في المعارك الشرسة التي تحتدم بين فصائل الكلاب المختلفة، كما يحدث بالضبط في عالم البشر، وهو المعنى الذي اكتمل بموسيقى «الويسترن» التي اعتدناها في أفلام «الكاوبوي» الأميركية، وتصنيف الكلاب إلى طبقات «أرستقراطية» و{مُعدمة» و{طامحة» إلى التغيير، ما كان سبباً في تأجيج نار البغضاء والغيرة والكراهية، وتأليب «الكلاب» بعضها ضد بعض، وسعي كل طبقة إلى الاستئثار بنصيبها في الأرض والخيرات، وهي المعالجة المثيرة التي كتبها المخرج الشاب أدهم الشريف ببراعة واقتدار وجنون مُحبب، وزادها التعليق الذي كتبه عاطف ناشد ثراءً وإثارة وطرافة، كذلك نجح إسلام عامر في ضبط إيقاع الفيلم بمونتاج ناعم لا يفتقد الدقة، وقطعات صارمة تخلو من الخشونة. لكن يتحمل المخرج مسؤولية تكرار بعض اللقطات وتطويل بعض المشاهد. كذلك اتسمت المعالجة بجدية بالغة، وافتقرت إلى خفة ظل كانت مطلوبة لتناسب الفكرة الخصبة والخيال الجامح، فالتعامل مع الخيال كان في حاجة إلى قدر من التخفف من الجدية، والمعالجة الكوميدية الرصينة وليس الهزلية للفكرة كانت ضرورية كي تصل الرسالة إلى المتلقي البسيط، ويكتمل شوط الجنون حتى النهاية. لكن يُحسب للمخرج الشاب أدهم الشريف، بعد تجربته غير المسبوقة في الفيلم التسجيلي «أحد سكان المدينة»، طموحه المشروع... وتمرده النبيل.