ولد عزالدين أبو العيش وتربى في مخيم جباليا في قطاع غزة. درس الطب في القاهرة ومن ثم في لندن. وبين عامَي 1997 و2002 نجح في أن يصبح أول طبيب فلسطيني مقيم في مستشفى سوروكا الإسرائيلي في بئر السبع. تابع أبو العيش تخصصه في إيطاليا وبلجيكا وجامعة هارفارد في الولايات المتحدة الأميركية.

Ad

في أواخر عام 2008، خسر أبو العيش، الذي كان يقيم في غزة، زوجته بعد صراع مع مرض السرطان. وأبى شبح الموت أن يفارق عائلته، مع أنه سلبها أحد أركانها. ففي يناير عام 2009، امتدت يد الحرب الهمجية في غزة لتخطف حياة ثلاث من بنات أبو العيش وإحدى بنات أخيه.

عام 2011، قرر أبو العيش، الذي تحوّل من صبي فقير يعيش في مخيم إلى أحد أهم الخبراء في معالجة العقم حول العالم، أن يضمن كتاباً عنونه I Shall Not Hate (لن أكره) مأساته العائلية. في هذا الكتاب، نقرأ قصة طبيب غزي يعالج المرضى من كلا طرفي النزاع، طبيب رفض أن يدع الكره والانتقام يتسللان إلى قلبه. ونستشف من كلمات أبو العيش في هذه الرواية شجاعة رجل واجه أوضاعاً عصيبة مريرة كانت ستهزم كثيرين منا. فبدا إنساناً متعالياً على الكره مترفعاً عن الانتقام. أراد لكتابه هذا أن يكون دعوة إلى المصالحة، لا صيحة حزن. إليكم مقتطفاً منه:

كنت أقرب ما يكون إلى الجنة وأبعد ما يكون عن الجحيم في ذلك اليوم. كنا على رقعة معزولة من الشاطئ تبعد نحو أربعة كيلومترات عن مآسي مدينة غزة. طفقت أمواج البحر تتدحرج على الشاطئ كما لو أنها تغسل الأمس، مخلفةً وراءها يوماً جديداً.

بدونا كأي عائلة أخرى على الشاطئ: بناتي الست وولدايّ، فضلاً عن بعض الأقارب والأعمام والعمات. راح الأولاد يلعبون بالماء، يكتبون أسماءهم في الرمل، وينادون بعضهم بعضاً وسط الرياح التي هبت على الشاطئ. ولكن على غرار معظم أوجه الحياة في الشرق الأوسط، لم تعكس هذه الصورة المثالية حقيقة الوضع، فقد اصطحبتُ عائلتي إلى الشاطئ لنجد بعض السلام وسط حالة الحزن التي نعيشها. كنا في الثاني عشر من ديسمبر عام 2008، وما كان قد مرّ على وفاة زوجتي ناديا أكثر من 12 أسبوعاً. غادرتنا ناديا بعد صراع مع مرض سرطان الدم، تاركةً أولادنا الثمانية من دون أم، وكان أصغرهم، ابني عبدالله، في سنته السادسة. توفيت زوجتي بعد تشخيص إصابتها باثني عشر أسبوعاً فقط، فتركنا موتها في حالة من الصدمة، الذهول، وانعدام التوازن الذي كانت أساسه في العائلة. كان علي أن أجمع شتات عائلتي وأحملها بعيداً عن ضوضاء مدينة جباليا وضجيجها حيث نعيش، لننعم ببعض الخصوصية كي نتذكر ونقوي الروابط التي توحدنا.

كان الجو بارداً، وقد أنارت شمس الشتاء السقيمة سماء ديسمبر، في حين امتد أمامنا البحر الأبيض المتوسط بمياهه اللازوردية. رحت أتأمل ابنيّ وبناتي يلعبون وسط الأمواج، فبدوا لي كأي أولاد فرحين يمرحون في مكان آخر من العالم. رغم ذلك، لم يشأ الخوف مما يخبئه مستقبلنا ومستقبل منطقتنا أن يفارقني، ولم يخطر في بالي أن مأساتنا كانت توشك أن تتضاعف. كان الناس يوجسون عمليةً عسكرية قريبة. طوال سنوات، اعتاد الإسرائيليون قصف أنفاق المهربين بين قطاع غزة ومصر. لكن وتيرة الاعتداءات ازدادت أخيراً. فمنذ وقوع الجندي الإسرائيلي جلعاد شاليط في أسر مجموعة إسلامية مجاهدة في شهر يونيو عام 2006، فُرض حصار على غزة لمعاقبة، حسبما يُفترض، الشعب الفلسطيني بأكمله على أعمال بعض منه. لكن إسرائيل شددت الحصار أخيراً حتى باتت الأنفاق السبيل الوحيد تقريباً إلى إدخال السلع إلى قطاع غزة. لذلك، كلما قصفتها إسرائيل، أعاد الفلسطينيون شقها ليدمرها الإسرائيليون مجدداً. بالإضافة إلى العزلة، ظلت المعابر الثلاثة من مصر وإسرائيل إلى غزة مقفلة أمام وسائل الإعلام طوال ستة أشهر، ما بدا إشارة إلى أن الإسرائيليين لا يريدون أن يعرف أحد ما يحدث. نتيجة لذلك، ازدادت الأجواء توتراً.

لا شك في أن العالم بأسره سمع بقطاع غزة. لكن قليلين يعرفون معنى الحياة في هذه المنطقة التي تعاني الفقر والحصار السنة تلو الأخرى والعقد تلو الآخر. فيرى سكانها الوعود تُنكث والفرص تضيع. تذكر تقارير الأمم المتحدة أن الكثافة السكانية في قطاع غزة الأعلى حول العالم. وغالبية سكانه المليون والنصف مليون تقريباً لاجئون فلسطينيون يعيش كثيرون منهم في مخيمات للاجئين منذ عقود. ويُقدَّر أن نحو 80% منهم تعيش في فقر. فضلاً عن ذلك، تخطت مدارسنا طاقتها القصوى، ولا نملك المال الكافي لتعبيد الطرقات ومدّ المستشفيات باللوازم الضرورية.

ابتُليت مخيمات قطاع غزة الثمانية ومدينتا غزة وجباليا بالضجيج، الازدحام، والأوساخ. يضم أحد هذه المخيمات، مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، أكثر من 81 ألفاً في أقل من 4 كيلومترات مربعة. ولكن إن أصغيت جيداً، يمكنك أن تسمع نبض الأمة الفلسطينية حتى في المخيمات. يجب أن يدرك الناس أن الفلسطينيين لا يعيشون لأنفسهم فحسب، بل يعيشون واحدهم للآخر ويدعمون بعضهم بعضاً. فما أقوم به لنفسي وأولادي، أفعله أيضاً لإخوتي وأخواتي وأولادهم. أنفق كل راتبي على عائلتي، ومعاً نؤلف مجتمعاً.

تهيم روح غزة في المقاهي حيث يناقش محبو النرجيلة آخر الأخبار السياسية، في الأزقة المزدحمة حيث يلعب الأولاد، في الأسواق حيث تتوقف النساء للحظات ثم يهرعن عائدات إلى عائلاتهن، وفي كلمات رجال مسنين يسيرون الهوينا في الشوارع الكثيرة الحفر للقاء الأصحاب، مطقطقين سبحة همومهم ومتحسرين على الزمن الماضي.

قنبلة زمنية

تظن للوهلة الأولى أن الجميع في عجلة من أمرهم، فالرؤوس منكسة والأعين تنظر إلى أسفل فيما يتنقل الناس من مكان إلى آخر. إلا أن هذه تصرفات شعب غاضب عانى القهر، الإهمال، والظلم. يتسلل ظلم قاتم لا يكلّ إلى كل وجه من أوجه الحياة في غزة، من الكتابات على الجدران في المدن والبلدات إلى المسنين الذين فارقتهم الابتسامة، الى الشبان العاطلين عن العمل الذين يحتشدون في الشوارع، والأولاد (وفي ذلك اليوم من ديسمبر أولادي) الذين يبحثون عن العزاء باللعب على الشاطئ.

هذه صورتي عن غزة: السفن الحربية الإسرائيلية تلوح في الأفق، المروحيات تحوم فوق رؤوسنا، أنفاق المهربين الخالية من الهواء في مصر، شاحنات الغوث التابعة للأمم المتحدة على الطرقات، الأبنية المهدمة، والبنى التحتية المتداعية. نعيش في حاجة دائمة، حاجة إلى زيت الطهو، إلى الفاكهة الطازجة والماء. نعاني نقصاً دائماً. يبدّل الغزيون ولاءهم بسرعة داخل القطاع، فيصعب علينا أحياناً أن نعرف مَن المسؤول ولمَن نحمّل المسؤولية. أنحملها لإسرائيل، المجتمع الدولي، فتح، حماس، العصابات، أو للأصوليين؟ يلوم معظم أهل غزة إسرائيل، الولايات المتحدة، والتاريخ.

يشكّل قطاع غزة قنبلة زمنية بشرية بدأت تنفجر. فطوال عام 2008، شهدنا إشارات تحذيرية تجاهلها العالم. فقد زاد انتخاب «حماس» في شهر يناير عام 2006 التوتر بين الإسرائيليين والفلسطينيين، وفاقمته صواريخ القسام التي كانت تُطلق بشكل متقطع على إسرائيل والعقوبات التي فرضها المجتمع الدولي على الفلسطينيين نتيجة لذلك.

تعبّر هذه الصواريخ، التي تكون غالباً محلية الصنع وتخطئ هدفها، عن مدى يأس الفلسطينيين. لكنها تطلق عادةً رد فعل الجيش الإسرائيلي المبالغ فيه والهجمات الصاروخية من طائراته الحربية التي تمطر الفلسطينيين وأولادهم الأبرياء المسالمين بالموت والدمار، ما يمهد بدوره لمزيد من صواريخ القسام. وهكذا بتنا نعيش في دوامة لا تنفك تكرر ذاتها.

بصفتي طبيباً، أصف هذه الدوامة بأنها مؤذية ومسيئة كشكل من أشكال التصرف المدمر للذات الذي يولد من قلب وضع يُعتبر ميؤوساً منه. نعاني حرماناً مطبقاً في غزة. تصطدم رغباتنا دوماً بالجواب «لا». لا للغاز، لا للكهرباء، لا لتأشيرات الخروج، لا لأولادنا ولا للحياة. حتى أصحاب الشهادات العليا يعجزون عن التكيّف. يفوق عدد حملة الشهادات الجامعية والشهادات العليا في غزة للفرد ما قد نجده في معظم بقع الأرض. لكن حياتهم الاجتماعية والاقتصادية لا تضاهي مستواهم العلمي بسبب الفقر، الحدود المقفلة، البطالة، والسكن غير الملائم. ومع هذا الواقع يعجز الناس عن الاستمرار، يعجزون عن العيش حياة طبيعية. ونتيجة لذلك، تحوّلت غزة إلى أرض خصبة للتطرف، فمن طبيعة الإنسان أن يسعى إلى الانتقام في وجه معاناته التي لا تكلّ ولا تهدأ. لا يمكنك أن تتوقع من إنسان سقيم أن يفكر بمنطق. يعاني معظم الناس هنا مشاكل نفسية من نوع ما، ويحتاج الجميع إلى إعادة تأهيل. ولكن ما من يد تمتد لتساعد وتخفف التوتر. يؤدي هذا السلوك الشبيه بالانتحار (إطلاق الصواريخ والعمليات الانتحارية) إلى هجمات مضادة ينفذها الإسرائيليون وتدفع بالغزيين إلى مزيد من الأعمال الانتقامية، ما يحمل الإسرائيليين على توجيه ردّ أكبر وأشد قسوة. وتتواصل هذه الحلقة المفرغة. لم يتخطَّ أكثر من نصف سكان غزة سن الثامنة عشرة، وهذا بالتأكيد عدد كبير من الشبان الغاضبين المحرومين من حقوقهم كافة. نتيجة لذلك، يتحدث المدرّسون غالباً عن مشاكل سلوكية في المدارس، تصرفات تعبّر عن مدى الاستياء والشعور بالعجز أمام الحرب والعنف. كذلك تصاعدت أعمال العنف ضد المرأة في السنوات العشر الأخيرة، ولا يُعتبر هذا مستغرباً في حالات الصراع والحرب. فالبطالة وما يرافقها من إحساس بالعجز وعدم الجدوى يولّدان نوعاً جديداً من الناس المستعدين لأخذ أي خطوات لأنهم يشعرون أنهم منبوذون، كما لو أنهم لا يملكون ما يخسرونه، أو أسوأ، ما يمكنهم إنقاذه.

يحاولون لفت انتباه الناس خارج حدودنا المقفلة: أولئك الذين يتخذون القرارات بشأن مَن هو مرحب به ومَن هو مرفوض. لا ينفكون عن المناداة: «انظروا إلى هنا! من الضروري أن تتوقف المعاناة في هذا المكان». ولكن من أين لأهل غزة أن يستقطبوا اهتمام المجتمع الدولي؟ حتى منظمات الغوث الإنسانية تحتاج إلى إذن من إسرائيل لتتمكن من دخول قطاع غزة والخروج منه. ويسيء مَن منحوا لقب حراس الحدود وأعطوا زياً رسمياً سلطتهم على نحو فاضح. إلا أن هؤلاء لا يدركون تداعيات سلوكهم، متمسكين بلائحة قواعد أملتها مجموعة قادة أعمتهم كبرياؤهم، فباتوا بعيدين كل البعد عن أي قاسم مشترك قد يجمعهم بأناس بشر مثلهم.

تشكّل أعمال العنف التي يرتكبها الفلسطينيون وسائل للتعبير عن استياء وغضب شعب يشعر بالضعف والعجز، فيتحول القسام البدائي والبخس إلى أغلى صواريخ العالم عندما تفكر في عواقبه وتداعياته التي بدّلت الحياة في كلا الجانبين، خصوصاً في الجانب الفلسطيني. فتؤدي الردود المبالغ فيها التي تطلقها القوى العسكرية النظامية إلى خسارة أرواح بريئة وتدمير منازل ومزارع. فلا ينجو من غضبها بشر أو حجر، ولا تعفو عن شيء.

خَبُرت هذا التوتر بمختلف درجاته خلال حياتي. وبذلت قصارى جهدي لأنجح، رغم الحدود التي فرضتها علينا الظروف. وُلدت في مخيم جباليا للاجئين عام 1955. وكنت الولد الأكبر في عائلة تضم ستة فتيان وثلاث فتيات. لم تكن حياتنا يوماً سهلة، لكني تمسكت منذ صغري بالأمل بغد أفضل. عندما كنت صغيراً، أدركت أن التعلّم امتياز ومفتاح الكثير من الفرص. وما زلت أذكر أني كنت أمسك بكتبي بقوة كما لو أني هرة تحمل صغارها. فحميت أغلى ممتلكاتي بحياتي، رغم الدمار البشع الذي أحاط بي. اعتدتُ إقراض كنوزي هذه إلى إخوتي وبعض الأصدقاء الذين يصغرونني سناً. ولكن قبل أن أسلمهم إياها، حرصت على أن أنبههم لضرورة الاعتناء بها كما لو أنها أثمن ما يقتنون. وما زلت أحتفظ بتلك الكتب حتى اليوم.

طبّ وإنسانية

وبفضل العمل الدؤوب، السعي المتواصل، والنعم التي يجنيها المؤمن، صرت طبيباً. لكني ما كنت لأحقق هدفي هذا لولا الجهود الجبارة والمضنية التي بذلها والداي وسائر أفراد عائلتي الذين ضحوا بكل شيء بطيب خاطر، مع أنهم ما كانوا يملكون الكثير، ليدعموني خلال دراستي. عندما انتقلت إلى كلية الطب في القاهرة، قلقوا لأني سأكون بعيداً عنهم. فهل أجد ما يسد جوعي؟ هل يتوافر لي طعامنا التقليدي؟ كعكي المفضل، توابلنا الفلسطينية اللذيذة، الزيت والزيتون؟ لذلك اعتادت أمي أن ترسل إلي هذه الأطايب مع كل من قدِم من أهل غزة لزيارة مصر. وكنت أتلقى أحياناً الثياب، الصابون، التفاح، الشاي والقهوة، كنت بحاجة إليها كلها، فضلاً عن بعض الأشياء المحببة إلى قلبي. أدركت عائلتي رغبتي في تأمين حياة أفضل لجميعنا وقررَت أن تستثمر في تعليمي، وكلها أمل بأن أنجح في مساعدة سائر أفرادها. بعد كلية الطب، نلت دبلوماً في طب النساء والتوليد من وزارة الصحة في المملكة العربية السعودية بالتعاون مع معهد طب النساء والتوليد في جامعة لندن. وفي مطلع شهر يونيو عام 1997، صرت طبيباً مقيماً متخصصاً في طب النساء والتوليد في مستشفى سوروكا في إسرائيل. وهكذا أصبحت أول طبيب فلسطيني ينضم إلى فريق العمل في مستشفى إسرائيلي. بعد ذلك، درست طب الجنين والوراثة في مستشفى «في. بوزي» في ميلانو بإيطاليا ومستشفى إيراسم في بروكسل ببلجيكا، وصرت طبيباً متخصصاً في أمراض العقم. أدركت بعدئذٍ أن علي التحلي بمهارات في مجال الإدارة وصنع السياسات، إن كنت أود حقاً أن أحقق إنجازات كبيرة للشعب الفلسطيني. فشاركت في برنامج دراسات عليا في مجال الصحة العامة (السياسات والإدارة الصحية) في كلية هارفارد. ثم عملت كباحث كبير في معهد غرتنر في مستشفى سبأ في إسرائيل.

أمضيت الجزء الأكبر من حياتي كرجل بالغ، إحدى قدميّ في فلسطين والأخرى في إسرائيل، وهذا بالتأكيد وضع غريب في منطقتنا هذه. وسواء كنت أولد الأطفال، أساعد الأزواج على تخطي مشكلة العقم، أو أبحث في تأثيرات العناية الصحية في المجتمعات الفقيرة ومقارنتها بالغنية أو أوضاع المجتمعات المحرومة من المساعدة الطبية ومقارنتها بتلك التي تنعم بكامل الرعاية الطبية، شعرت دوماً أن بإمكان الطب أن يسد الهوة بين الشعوب وأن باستطاعة الأطباء أن يكونوا رسل سلام.

لم أتوصل إلى هذه الخلاصة بسهولة. ولدتُ في مخيم للاجئين، ترعرعت في مخيم للاجئين، وعرضت نفسي كل أسبوع لذل نقاط التفتيش وما يرافق الخروج من غزة والعودة إليها من شعور بالاستياء والتأخير المستمر. لكني ما زلت أصرّ على أن الانتقام والانتقام المضاد سلوك انتحاري، وأن الاحترام المتبادل، المساواة، والتعايش هي السبيل الوحيد إلى المضي قدماً. وأتمسك باعتقادي أن غالبية الناس في هذه المنطقة يوافقونني الرأي. مع أني كنت أشعر بدنوّ خطر مهول في شهر ديسمبر عام 2008، خطر يزعزع إحساسنا بالأمان أكثر من وفاة ناديا، شغلت هذه الأفكار بالي فيما رحت أتأمل أولادي وهم يشقون أمواج البحر.

رحلة إلى الشاطئ

اخترت الثاني عشر من ديسمبر لأصطحبهم إلى شاطئ البحر لأنه تلا الحج، إحدى أهم فترات السنة بالنسبة إلى المسلمين. إنه وقت التأمل والصلاة واجتماع العائلة. يكون الحج إلى مكة بين اليوم السابع والثاني عشر من ذي الحجة في الروزنامة الهجرية (...). احتفلنا بأول أيام عيد الأضحى في مخيم جباليا مع الأقارب وقصدنا مقبرة المخيم لنصلي لروح ناديا. كذلك اشتريت خروفاً وضحيت به. تبرعت بثلثي الخروف للفقراء والمعوزين، كما جرت العادة. أما الثلث المتبقي، فأعددنا منه الكباب للشواء عند الشاطئ، احتفالاً بآخر أيام العيد.

استيقظنا في الصباح الباكر، أعددنا الشطائر، ووضبنا أغراض النزهة. في السابعة صباحاً، ركبنا كلنا سيارتي السوبارو من طراز 1986 وانطلقنا.

قبل أن نبلغ الشاطئ، قدمت لأولادي هدية أخرى. في مطلع شهر ديسمبر، ابتعت بستان زيتون صغيراً مساحته نحو ألف متر مربع تقريباً ولا يبعد عن الشاطئ سوى 400 متر. بدا هذا البستان أشبه بقطعة من شانغري، لا يفصلها عن الاضطرابات المحيطة بها سوى ارتفاعه ثلاثة أمتار. ظننت أننا قد نتمكن ذات يوم من بناء منزل صغير فيه. أبقيت خبر شرائي هذا البستان سراً إلى أن أتمكن من اصطحاب أولادي إليه. وفيما هموا بالنزول من السيارة، ارتسمت على محياهم علامات الدهشة والإعجاب بهذه القطعة من الجنة على أطراف غزة بما فيها من عرائش وأشجار زيتون وتين ومشمش. استكشفوا كل زاوية فيه، تأملوا أشجاره المصطفة بدقة، وراحوا يطاردون أحدهم الآخر بفرح تحت أغصانها إلى أن ذكرتهم أنّ أمامنا الكثير من العمل، فانهمك الجميع في مهمة ترتيب هذا المكان الذي عانى بعض الإهمال واحتاج إلى التعشيب. ومع أنهم لم يعرفوا سوى شوارع قطاع غزة الضيقة والمكتظة طوال حياتهم، بدا أولادي، ذرية أجيال من المزارعين، كما لو أنهم في مكانهم المناسب.

بعد أن اكتفينا من العمل، توجهنا إلى بقعة صغيرة من البستان يحدها صف من الحجارة وتظللها خيمة تعلوها العرائش. ففرشنا الحصائر على الأرض وأشعلنا ناراً صغيرة، مستخدمين الأغصان والأعشاب اليابسة التي أزلناها عن أشجار الزيتون، ثم جلسنا في ظلال العرائش لتناول شطائر الفلافل والتحدث عن التطورات الأخيرة التي مرت بها حياة عائلتنا، خصوصاً خسارة زوجتي، أمهم. كان هذا التغير مهولاً إلى حد أننا كنا نحاول التكيف معه بصعوبة وحزن، رغم مرور ثلاثة أشهر على وفاتها.

خططت أيضاً للتحدث إليهم عن مفاجأة مهمة أخرى، فقد عُرضت علي أخيراً فرصة العمل في جامعة تورنتو في كندا. وباستثناء فترة قصيرة أقمنا خلالها في المملكة العربية السعودية، حيث ولدت بيسان ودلال، لم تعش عائلتي في مكان آخر غير غزة. ولا شك في أن الانتقال للإقامة في تورنتو سيكون تغييراً كبيراً، وقد يكون أكبر من أن يتقبلوه بعد وفاة والدتهم بفترة وجيزة.