إن وصول رئيس ذي خلفية دينية، وينتمي إلى أكبر حركات "الإسلام السياسي"، كان يستدعي إرسال العديد من رسائل "الطمأنة" للعالم الخارجي، توضِّح شكل العلاقة بين مصر، في عهد سلطتها الدينية الجديدة، وغيرها من الدول. ولا شك أن الغرب والعالم الآن، معجبون برئاسة محمد مرسي للرئاسة المصرية، وللسياسة الخارجية التي يتبعها مرسي حتى الآن. وهذه السياسة- دون شك- ستشجع بقية حركات "الإخوان المسلمين" خارج مصر، وفي العالم العربي الثائر منه، والذي سيثور، على أن يتيح لـ"الإخوان المسلمين" الحكم كما أتاحه لهم في مصر، ما داموا بهذه الأخلاق الاجتماعية والسياسية والإعلامية التي نراها الآن في مصر.

Ad

ولنلاحظ أن الغرب- خصوصاً– الذي كان متخوفاً وحذراً من حكم "الإخوان" ومن سلطة "الإخوان"، أصبح الآن يتسابق لتقديم الدعم المادي والسياسي لدولة "الإخوان"، ومهما حاول مرسي في ندواته، واجتماعاته، وتصريحاته، أن ينفي "الأخونة" عن هذه الدولة، فلن يفيده ذلك شيئاً، وهو القادم من داخل هذه العباءة، ومن داخل هذه الكوة الدينية، التي كانت متشددة، فأصبحت تنافس الليبراليين في مناداتها بالتعددية، والديمقراطية، وحرية الرأي... إلخ.

الانتقام من عهود سابقة

ففي زيارة مرسي الأولى للصين، ثم لإيران، وهجومه الكاسح على بشار الأسد، ونظام الحكم هناك، استطاع أن يثبت بوضوح، "أخونة" الدولة المصرية. وبأنه زعيم من "الإخوان المسلمين" أولاً، ثم رئيساً وحاكماً لمصر ثانياً. فهذا الهجوم الكاسح، من قبل مرسي على بشار الأسد- ولا مثيل له من حكام العالم العربي الآخرين- ليس نصرة للثورة الشعبية السورية المتفجرة الآن، بقدر ما هو نصرة لجماعة "الإخوان المسلمين" في سورية، الذين تأسسوا عام 1934، وجاء حافظ الأسد في عام 1982 وقتلهم شر مقتل، ومزقهم شر ممزق. ففي زيارة مرسي للصين الشيوعية، تم تطبيق هدف "إخواني" سياسي واضح وصريح، وهو تطبيق جزئي لـ"مشروع النهضة" الإخواني السابق، ومن مظاهر هذا التطبيق الفعلي:

1- أن "الإخوان المسلمين" ليسوا مؤسسة دينية، تضم مجموعة من الدراويش المعادين للغرب. فهاهم يقدمون كل يوم، البرهان تلو الآخر، بأنهم يسعون إلى الحفاظ على علاقات وثيقة، ومتينة، وعقلانية مع الغرب. وكان آخرها دعوتهم إلى إلغاء "مليونيّة الجمعة" (14/ 9/ 2012) في ميدان التحرير، في القاهرة، احتجاجاً على الفيلم المسيء إلى الإسلام.

2- تهدف زيارة مرسي للصين الشيوعية والبوذية، إلى إعادة التوازن في الشرق الأوسط، وإبلاغ واشنطن رسالة مهمة، وهي أن مصر قادرة على إحداث توازن في علاقاتها الخارجية من خلال إقامة علاقات قوية مع حلفاء جدد إقليمياً ودولياً. كما قال مايكل هيغز (خبير استراتيجي بمؤسسة "ائتلاف استراتيجيات العالم الجديد") الأميركي.

3- أصبحت هناك رغبة قوية لدى القاهرة، لتنويع حلفائها الاستراتيجيين في المستقبل، سواء على الصعيد الدولي مثل الصين، أو الصعيد الإقليمي مثل إيران، وكلا الدولتين ستكونان محطات مهمة في جدول زيارة الرئيس مرسي الخارجية في المستقبل. وقال موقع "روسيا اليوم" إن مصر، ظلت لسنوات تعتمد على الشراكة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة، والتي تحصل في مقابلها على دعم اقتصادي وعسكري كبير، لكن مع تغير الأوضاع في مصر حاليا وتولّي رئيس جديد، تغير الموقف إلى حد بعيد. فهدف مرسي من زيارة الصين، إعادة التوازن في الشرق الأوسط، وإثبات أن هناك قوى أخرى في العالم، يمكنها العمل في المنطقة، بالإضافة إلى الولايات المتحدة.

4- إذن، فزيارة مرسي إلى الصين تمثل أحد أشكال الضغوط على واشنطن والغرب، ليسرع في تلبية مطالب مصر المالية، خصوصاً أن مصر طلبت دعماً اقتصادياً أولاً من واشنطن، وقروضاً من المؤسسات المالية الغربية بما فيها صندوق النقد الدولي، ثم اتجهت إلى الصين لتطلب الاستثمارات. وهكذا أصبح "الإخوان المسلمون" ودولتهم القوية في مصر، لا يفرقون بين الشيطان الصيني، والشيطان الأميركي، وحمل مرسي "مشروع النهضة"، الذي كان يحمله سابقه خيرت الشاطر، والذي يولي للسياسة الخارجية لمصر قدراً كبيراً من صفحاته، بأنه، "لا بُد أن تعود لمصر ريادتها ومكانتها الخارجية كما كانت عليه من قبل، لما تتمتع به مصر من موقع جيو سياسي وإقليمي، يجعلها من أهم دول المنطقة".

5- ولا شك، أن الصين قد استفادت من هذه الزيارة. فهي تضع على رأس أولوياتها، إيجاد موطئ قدم في منطقة البحر المتوسط، والعمل على تعزيز استثماراتها في منطقة قناة السويس، أهم ممر ملاحي في العالم. وقد أدركت مصر هذه الرغبة الصينية، وبدأت تعمل لتحقيقها من أجل تحقيق أكبر استفادة اقتصادية واستراتيجية ممكنة. وبذا دخلت "دولة الإخوان المسلمين" في مصر قلب العالم، من أوسع أبوابه.

«ضربة معلم» أخرى!

أما زيارة مرسي السريعة لإيران وحضوره "مؤتمر دول عدم الانحياز"، وثناؤه على الرئيس عبدالناصر، فاعتُبر مصالحة تاريخية نادرة، رغم تنكيل عبدالناصر بـ"الإخوان"، وإعدام أكبر زعمائهم، وهو سيد قطب. وبذا أثبتت "دولة الإخوان المسلمين" في مصر أن البراغماتية السياسية، ترجح على العداء العقدي مع العهود السياسية الماضية. وهذا مثال سياسي ليس خاصاً بمصر وحدها، بقدر ما هو مثال مُعمَّم، ويجب الاحتذاء به في كل العالم العربي، ويتخذه "الإخوان المسلمون"، في كل من سورية الثائرة، والأردن الذي يقف على حافة الثورة الشعبية المترددة هناك، نتيجة لتأرجح موقف التيار الديني (جبهة العمل الإسلامي) لعدم وضوح الرؤيا السياسية المصرية بعد، لهؤلاء.

السلام العالمي واحترام الأديان

والآن، يزور مرسي إيطاليا كرسول من "الإخوان المسلمين"، للهدف ذاته الذي زار الصين من أجله، وانتهز مرسي "هوجة" الهجوم على الفيلم المسيء إلى الإسلام، وقال إن "السلام العالمي لا يتحقق إلا باحترام كل الأديان"، موضحاً أيضاً أن تعاليم الدين الإسلامي، تُحرّم قتل النفس البريئة، وذلك في معرض تعليقه على حادثة مقتل السفير الأميركي ببنغازي. وقال: "هذا شيء نرفضه تماماً. ونعزِّي الشعب الأميركي فيمن قُتلوا في بنغازي. ونقول لهم، إننا كقيادة وشعب، ضد هذا العدوان. وقتلُ النفس بغير ذنب في ديننا، محرم، وممنوع".

تنفيذ بنود «مشروع النهضة»

وهكذا يقدم مرسي "جماعة الإخوان المسلمين" للعالم كحزب سياسي تقدمي، يفوق في تقدمية شعاراته الأحزاب العربية الأخرى كافة، التي خبرناها في الماضي، ويتحدى الأحزاب التقدمية، إن كانت تؤدي أداءً أفضل من أداء الرئيس مرسي حتى الآن، ويبشر بمستقبل سياسي جديد لجماعة "الإخوان المسلمين" في العالم العربي.

وهكذا نرى- كجزء من "مشروع النهضة" الإخواني- أن مبدأ الريادة الخارجية لدى "الإخوان"، ينطلق من الدوائر المحيطة بداية من الدائرة العربية، ثم الإقليمية والدولية، ورسم سياسة خارجية متزنة مع الجميع، ومبدأ المعاملة الندية مع أميركا، والحفاظ على المصالح المشتركة بين الدولتين. ورسم سياسة تعاونية مع الدول الإفريقية. وتلك هي كانت كلها لُب وقلب "مشروع النهضة" الإخواني.

* كاتب أردني