على هامش أزمة سكوب

نشر في 25-03-2012 | 00:01
آخر تحديث 25-03-2012 | 00:01
No Image Caption
 ياسر عبد العزيز ها هي الكويت تدخل مجدداً في أزمة بسبب مشكلة إعلامية، إنها ليست المرة الأولى بالطبع التي يأخذ فيها الإعلام خيطاً من الواقع الإشكالي الذي يحفل بالتربص والحدة، ثم يشعل فيه النار، فيتحول فتيلاً قادراً على تأجيج اللهب، وإبقاء المسرح السياسي منشغلاً عن القضايا والأولويات الرئيسة بمحاولات الإطفاء المضنية. اليوم تتفجر الأزمة عبر قناة "سكوب"، وقبلها حدث أمر مشابه مع قناة "السور"، وهي أزمة مرشحة بالطبع للتكرار، طالما أن المجتمع والدولة والجسم الإعلامي في الكويت لم يبتكروا آلية مبدعة للجم مخاطر مثل تلك الأزمات، وإبقائها دائماً في إطار الضبط، وبعيداً عن فرص التأجيج والاستغلال. إنه سؤال جوهري يجب أن يُطرح الآن: هل هناك وسيلة يمكن من خلالها إيجاد آلية تمكن الجمهور من تقديم شكاوى في حق أنماط الأداء المسيئة من قبل بعض وسائل الإعلام، على أن يتم التحقيق في تلك الشكاوى بشكل نزيه ومستقل وعادل، ويتم إنزال العقوبة في حق المخطئ، دون أن تُترك المشكلة لتتفاقم وتتخذ اتجاهاً عنيفاً، أو تُصدر إلى القضاء فترهقه، أو إلى مؤسسة السياسة فتربكها، أو تبقى بلا حل فتفاقم الاحتقان والخطر؟ كتبت مقالاً في تلك الزاوية، في ربيع عام 2010، عن أزمة فضائية "السور"، وهو مقال لم يسع فقط إلى محاولة طرح حل واقعي ومرن ومبرهن على نجاعته، ولكنه توقع أيضاً حدوث أزمات جديدة مشابهة... وها نحن نواجه أزمة جديدة بالفعل. والواقع أن الإشارات كلها تفيد أن تلك الأزمات مرشحة دوماً للتكرار، ما لم يتم التوافق على حلول جديدة تخلق فرصاً أفضل للتعاطي مع الاعتوارات والأخطاء التي ترد عبر الممارسة الإعلامية، وتحفظ حرية الإعلام، وتراعي المصلحة العامة، وتصون حقوق الأفراد والجماعات المنخرطة في قصص الإعلام ومعالجاته في آن. وقد أوضحت، في المقال المشار إليه، أن بعض الدول الغربية استطاعت تطوير وسائل متكاملة يمكنها أن تقلل من الأزمات الإعلامية إلى أقصى درجة ممكنة، وأن تحد من حجم المشكلات التي يصدرها التنازع حول أدوار الإعلام وممارساته إلى القضاء والبرلمان والمجال العام، وتغل يد السلطة التنفيذية عن التحكم بالتعاطي الإعلامي وحرفه وتهديد استقلاله في الوقت ذاته. ومن تلك الوسائل ما يتعلق بتطوير قدرات التنظيم الذاتي لدى وسائل الإعلام نفسها؛ إذ تعمد بعض وسائل الإعلام الغربية إلى إصدار "أدلة إرشادات تحريرية"، تحوي القواعد الأخلاقية والمهنية الواجب اتباعها عند التصدي لتغطية الموضوعات والقصص، بحيث تقدم إجابات مفصلة عن أسئلة يمكن أن تطرأ على الإعلامي الذي ينخرط في تغطية قصة ما، وهي إجابات تتوخى المعايير القياسية، ويساعد الالتزام بها على التقليل من التجاوزات التي تخلق الأزمات إلى أقصى درجة ممكنة. وتنشئ بعض وسائل الإعلام المرموقة "وحدات سياسة تحريرية"، تضم إعلاميين مخضرمين وعناصر خبرة قانونية وإدارية، لإعطاء المشورة للمحررين في ما يتعلق بالجوانب الأخلاقية والقانونية عند التصدي لتغطية قصص ملتبسة وشائكة، قد يؤدي التعاطي غير المهني معها إلى توليد أزمات ومشكلات، وبما يضمن توفير المشورة اللازمة لضبط الأداء وإبقائه ضمن حيز المعايير المهنية. وإضافة إلى ذلك، فإن بعض وسائل الإعلام تحرص على تطوير وحدات تدريب دائمة داخل الوسيلة الإعلامية نفسها، لرفع مهارات الإعلاميين وإكسابهم المعرفة اللازمة للتصدي لتغطية النزاعات والصراعات السياسية والاجتماعية والقضايا ذات الحساسية والخطورة، عبر تزويدهم بمعارف قانونية ومهنية وقيمية. لكن تعزيز قدرة وسائل الإعلام على مقاربة القضايا بأقل قدر ممكن من الأخطاء المهنية والأخلاقية والقانونية، عبر بناء قدرات الوسائل ومنسوبيها من الإعلاميين، لن يكون قادراً وحده على الحد من النزاعات والأزمات التي تتولد بسبب الإعلام، أو تتفاقم فيه، إلى درجة مرضية؛ إذ تظل فرص الخطأ والتجاوز واردة في كل الأحيان. لذلك، فإن دولاً غربية عدة طورت نمطاً مؤسسياً يؤطر الممارسة الإعلامية، يسمى بـ"مؤسسات الدقة العامة"، وهي مؤسسات تنشأ في صيغة مستقلة عادة، وتضمن تمويلاً لا يمس نزاهتها ولا قدرتها على الاستدامة بقدر الإمكان، وتقوم بأدوار متابعة الأداء الإعلامي، وتلقي الشكاوى من المتضررين من الممارسات الإعلامية، وبحثها، والوصول إلى تقييمات وقرارات في شأن مسؤولية وسائل الإعلام والإعلاميين المعنيين بصددها. كما تمتلك صلاحيات لتوقيع اللوم المعنوي، ونشر الأخطاء، وإلزام الوسيلة الملامة بالتصحيح والاعتذار ونشر الردود أو بثها، كما تمتلك بعضها سلطة توقيع عقوبة إيقاف الصدور أو البث بصورة مؤقتة، أو التوصية بالإيقاف النهائي للبث والصدور وسحب التراخيص في الحالات المتفاقمة وبعد عدد من التنبيهات والتحذيرات والعقوبات المتدرجة. ومن تلك المؤسسات مكتب الاتصالات بالمملكة المتحدة، وهو هيئة مستقلة عن الحكومة، لكنها مسؤولة أمام "مجلس العموم"، وتختص بتلقي شكاوى الجمهور والأطراف المتضررة من خدمات الاتصالات، وعلى رأسها خدمات الإذاعة والتلفزيون. وتمتلك الهيئة سلطة توقيع عقوبات معنوية ومالية، كما يمكنها إيقاف بعض البرامج والإعلاميين عن العمل، ويتم تمويلها من رسوم تدفعها وسائل الإعلام المسموعة والمرئية وبعض المنح الحكومية، وهناك أيضاً لجنة شكاوى الصحافة بالدولة نفسها، وهي هيئة مستقلة، تلتزم بالبت في شكاوى الجمهور من ممارسات الصحافة المطبوعة، وتنتهج عدداً من الأساليب لتوجيه النقد واللوم والتوبيخ المعنوي للوسائل التي تتم إدانتها. وتحقق اللجنة في آلاف الشكاوى سنوياً، وتقول إنها خففت الضغط بدرجة كبيرة على القضاء بمنعها وصول النزاعات إليه. وهناك أيضاً اللجنة الفيدرالية للاتصالات، وهي وكالة أميركية مستقلة، تختص بمتابعة أداء وسائل الإعلام المسموعة والمرئية. ويقودها خمسة أمناء، يتم تعيينهم من قبل الرئيس، لكن مجلس الشيوخ يجب أن يقر تعيينهم، على ألا ينتمى أكثر من ثلاثة منهم إلى حزب واحد، لضمان عدم الانحياز. تحتاج الكويت إلى حلول إبداعية لتقليل الأزمات الإعلامية المتلاحقة والمتفاقمة؛ بعضها يتصل ببناء قدرات التنظيم الذاتي لوسائل الإعلام عبر إصدار الأدلة الملزمة والتدريب، وبعضها الآخر يتعلق بضرورة إنشاء مؤسسة للدقة العامة، تتابع الأداء الإعلامي، وتتمتع بالخبرة والاستقلال والنزاهة والكفاءة، وتبت في شكاوى المتضررين، وتمتلك صلاحيات لإنزال عقوبات معنوية وغرامات مالية موجعة بالمخطئين، ومن ثم تحد إلى درجة كبيرة من انفلات بعض وسائل الإعلام من جهة، وتقلل الضغوط التي تستهدف حرية الإعلام وازدهاره من جهة أخرى. * كاتب مصري
back to top