حين يتسابق فريقان من المغالين في فكرٍ ما إلى الصراع والتشدد فيه يتركان مساحة من الفكر غير مضاءة ومهجورة لا يريد أي منهما أن يلتفت اليها. هذه المنطقة هي الدائرة التي يمكن لهذين الفريقين أن يلتقيا بها لو أرادا فعلا أن يلتقيا. الأقسى من ذلك هو أن يلتفت الفريقان إلى من يريد أن يدخل تلك المنطقة محاولا اعادتهما اليها، ونعته بالزندقة والهرطقة والكذب والتدليس.

Ad

الدكتور عدنان ابراهيم رجل لم أسمع به إلا حديثاً، أرشدني أحد الإخوة إلى الاستماع اليه وكأنه يقدم لي هدية بحثت عنها طويلا لسبب بسيط؛ أنني كنت أقرأ كتب التاريخ كما يفعل أي انسان مهتم بتاريخ أمته وماضيها حتى وإن كان تخصصه بعيدا عنها. ولأن تاريخنا منذ قيام الدعوة الاسلامية ودخول الناس الى الإسلام ارتبط بما هو مقدس وديني فقد حمل هذا التاريخ والشخوص الذين ساهموا في إنجازه، وأحيانا الذين ساهموا في كتابته، صبغة من هذه القداسة. أصبح الحديث عن أي خطأ بشري ارتُكب هو محاولة للنيل من هذه القدسية، حتى وإن كان نقلا محضا لا تتدخل كقارئ في الإضافة اليه أو تحليله كفعل تاريخي.

عدنان ابراهيم قرأ ما كنا نقرأ في أمهات الكتب، قرأ للطبري وابن كثير وابن الأثير وغير ذلك من الكتب التي اعتدنا قراءتها. ولكنه قرأ في المنطقة التى هجرها الباحثون عن حقيقة تروق لهم وتاريخ لا يريدون أن يروا فيه سوى الكمال الذي لا تشوبه أخطاء بشرية ممكنة. الذين صنعوا هذا التاريخ رجال لا معصوم منهم إلا الرسول الأكرم، اختلفوا واقتتلوا كما يحدث في أي حضارة من الحضارات البشرية السابقة واللاحقة.

القراءة التي يتناولها الرجل هي ما نريد تسليط الضوء عليه لا تفاصيل الأحداث التي يرويها، هي قراءة ليست جديدة وتناولها كثير من الباحثين قبله وموزعة في كتب لا حصر لها في المكتبة التاريخية والعصرية لنقد العقل العربي. أما الجديد في قراءته فهو اللجوء الى المنبر متحدثا لا كاتبا عن أفكاره، ويبدو أن الدكتور ابراهيم أدرك أن أي كتابة للعالم العربي لا تجد مكانها في أوساط أمة عادت الى ثقافة المشافهة لا القراءة كفعل.

الملايين في العالم العربي يتلقون دروسهم وأفكارهم بشكل يومي من القارئ المتحدث الذي يقرأ لهم نيابة عنهم. وهذا القارئ الفاعل لا يناقش عادة في ما يقرأ وما يطرح من أفكار، لأن مراجعة ما يقرأ تحتاج إلى جهد قرائي، والعربي لا يجد الجهد الذي يمكنه من القراءة. ولهذا أجمع هؤلاء القراء على أن شعبا لا يقرأ لا يحتاج الى أكثر من قناة فضائية تصب في وعيه وعقله ما تريد وما تختاره من سطور هذا التاريخ وإغفال وتجاهل ما تريد من سطور لا حاجة لهم بها طالما أنها تزعزع الفكرة التي يريدون الوصول بها إلى هذا المتلقي الكسول.

عدنان ابراهيم يقرأ التاريخ الإسلامي، وهذا ليس محط اعجابي فكثيرون غيره يقرأون هذا التاريخ ويتفقون ويتنازعون فيه، ولكن اعجابي بالرجل هو خروجه من الإطار الذي يضع قارئ التاريخ نفسه فيه مغلبا مذهبه على الحقيقة التاريخية. وإعجابي به لأنه رجل يقرأ في التاريخ الاسلامي الشائك والوعر، ولا يتردد في الاستعانة بطرح ثقافة عالمية فيأخذ من أفكار فولتير وديكارت وعلماء الفيزياء والفلك ونجاحه في تقديمها إلى المستمع بطريقة يدركها هذا المستمع، ولا تبدو دخيلة على منبر لم يعتد على سماع هذه الأفكار فيه.

هذه المنطقة المهجورة التي تركها كثير من قراء التاريخ هي المنطقة الوحيدة التي بإمكاننا الدخول اليها حين نناقش تاريخا بشريا نختلف فيه اختلافا صحيا، لأنه صنيع بشر ليسوا أنبياء ولم يطرحوا أنفسهم كذلك.