للمرة الأولى منذ عقود طويلة لم تعش مصر فراغاً دستورياً مثل الذي تعيشه الآن، فرغم وجود إعلان دستوري أصدره المجلس العسكري في مارس من العام الماضي، وإعلان آخر مكمل صدر عشية جولة الإعادة في الانتخابات الرئاسية، فإن اليقين مزعزع في سلامة الإعلانين وقدرتهما على الوفاء بأدوارهما لحين استكمال عملية إعداد دستور جديد. وقعت القوى السياسية والجمهور أيضاً في خطأ جوهري ضخم حين تم قبول فكرة إجراء الانتخابات التشريعية والرئاسية قبل إعداد الدستور؛ وهو أمر أشبه تماماً بوضع العربة أمام الحصان. وبسبب سعي قوى الإسلام السياسي إلى الذهاب إلى الانتخابات سريعاً للهيمنة على السلطات المنتخبة كافة بما يسمح لها بالسيطرة على طريقة وضع الدستور، وبسبب رضوخ "المجلس العسكري" لتلك الرغبة سعياً لتهدئة الشارع والحصول على الوقت، تم وضع البلاد في مأزق دستوري خطير تمثل في انتخاب سلطات من دون صلاحيات واضحة تقنن عملها. واستناداً إلى الإعلان الدستوري الذي صدر عن المجلس العسكري في مارس 2011، بات من حق الأعضاء المنتخبين في غرفتي "البرلمان" انتخاب أعضاء "الجمعية التأسيسية" المنوطة بوضع الدستور. أدى هذا بالطبع إلى سيطرة إسلامية واضحة على تشكيل الجمعية، حيث منح الإعلان الدستوري القوى المهيمنة في "البرلمان" القدرة على اختيار واضعي الدستور، في وقت فشلت فيه كل المحاولات التي سعت إلى إقرار عدد من المعايير الملزمة عند اختيارهم. لم يحسن الإسلاميون التعامل مع ذلك الاستحقاق، وبدلاً من إعطاء انطباع بتفهمهم لطبيعة الوثيقة الدستورية وأهمية أن تكون محل توافق تام بين أطياف الأمة المختلفة، أرسلوا إشارة أخرى إلى رغبتهم في الهيمنة والسيطرة على مفاصل الدولة، فشكلوا "الجمعية التأسيسية" الأولى بشكل أوضح هيمنة الإسلاميين من جهة، واختاروا نواباً في البرلمان لعضويتها من جهة أخرى. لقد تم حل تلك الجمعية عبر القضاء على أي حال، لكنها عادت للتشكل من دون إجراء تغييرات جوهرية على طبيعتها، ورغم جهود واضحة من قبل القائمين على الجمعية الراهنة للاستماع إلى شرائح الشعب المصري وفئاته كافة، فإن المطاعن على الجمعية آخذة في التصاعد، وقبل ثلاثة أيام أرجأت محكمة مختصة النظر في طعن قانوني يستهدفها إلى وقت لاحق من هذا الشهر، وهو أمر يبقي قدرتها على الاستمرار في عملها لحين إنجاز الدستور على المحك. ليت الإشكالات القانونية التي تصاحب عمل "الجمعية التأسيسية" هي العائق الوحيد أمامها؛ فثمة إشكالات أكثر عمقاً وتأثيراً تلقي بظلال قاتمة على أدائها، وتجعل من عملية إعداد الدستور في مصر مصدراً للتوتر والانقسام والاستقطاب، بدلاً من أن تصبح عملية توافقية تعزز الاندماج الوطني وتزيد التماسك الاجتماعي. أهم الإشكالات في عمل الجمعية يتضح حين يتم فحص وتحليل ما يرشح من مناقشاتها والأفكار المتداولة فيها؛ إذ يظهر بوضوح أن عدداً من الأعضاء المختارين لكتابة الدستور، أو القوى السياسية التي تمثلهم، يصر على صبغ الدستور بصبغة دينية معينة؛ وهو أمر يستنزف الجهد والطاقة، ويخلق استقطاباً حاداً، ويزيد من مخاوف النخب والطبقة السياسية، كما يعزز نزعة "التدين الشكلي" الشمولية التي بدأت تظهر في الشارع. تنص المادة الثانية من دستور 1971 المعطل على أن "الإسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسي للتشريع"، وهي مادة تعرضت لانتقادات حادة من بعض القوى الليبرالية والمسيحية، على اعتبار أنها "تعزز صبغة الدولة الدينية" كما يقولون. لكن تلك المادة لم تنعكس في الإطار السياسي والثقافي المصري بشكل سلبي على أي حال، وظل التعاطي معها يعكس فهماً واضحاً، لدى السلطة والشعب، لمكانة الإسلام في مصر من جهة، ودوره الملهم في صياغة الأداء العام من جهة أخرى، دون أن تأخذ الدولة طابع النظم الدينية الشمولية. لكن ما يرشح عن "الجمعية التأسيسية" بخصوص تلك المادة لا يبشر بخير أبداً؛ إذ يسعى بعض السلفيين في الجمعية إلى تغييرها، من خلال إزالة كلمة "مبادئ"، أو وضع كلمة "أحكام" بدلاً منها، وهو أمر يزيد من الدور الذي تلعبه الشريعة في عملية التشريع، وبالتالي في إدارة الدولة والمجتمع. يدفع هؤلاء السلفيون الراغبون في توسيع دور الشريعة بالقول إنهم "لم يدخلوا عالم السياسة سوى لتطبيق الشريعة، والشعب يريد تطبيق الشريعة". وفي المقابل، سعت بعض القوى الليبرالية إلى الإبقاء على النص كما هو، أو إضافة عبارة تتيح لغير المسلمين "الاحتكام إلى شرائعهم"، أو اعتبار أن "الأزهر هو المرجعية الوحيدة في تفسير الشريعة"، وكلها بالطبع متاهات دستورية تجر الجمعية، والمجتمع من ورائها، إلى استقطاب حاد غير ذي معنى. ليس هذا فقط، بل إن بعض القوى السياسية الممثلة في الجمعية تصر على أن يتم النص على أن "مصر دولة شورية" في الدستور. لم يعرف أي دستور وجوداً لتلك الكلمة بالطبع، لكن هؤلاء يدفعون بأن "الديمقراطية وحدها لا تكفي، لأن الديمقراطية يمكن أن تؤدي إلى اتخاذ قرار يخالف الشريعة، وهنا يجب أن تتدخل الشورى". العجيب أن من يدفع بهذا الطرح هو الفصيل ذاته الذي استند في هيمنته على "الجمعية التأسيسية" إلى "نتائج الصناديق الانتخابية". ليس هذا كل شيء؛ فقد نشب عراك آخر حينما طرح بعض أعضاء الجمعية التأسيسية إضافة كلمة "السيادة لله" إلى الدستور، بدلاً من كلمة "السيادة للشعب"، وهي كلمة أيضاً غير موجودة في أي دستور آخر، لكنها تعكس رغبة من المنتمين لهذه القوى السياسية في توسيع الإطار الديني الذي يحكم الدستور. ورغم أن "الأزهر الشريف" وقف بشدة ضد محاولات صبغ الدستور بصبغة دينية غير توافقية في أكثر من مرة؛ فإنه أدلى بدلوه هو الآخر بشكل ما، حين اقترح إضافة مادة "تجرم المساس بالذات الإلهية، والأنبياء والرسل، وأمهات المؤمنين، والخلفاء الراشدين". يقول بعض المحللين إن تلك المادة تستهدف الوقوف أمام محاولات نشر "التشيع" في مصر، وهي مسألة غير مدروسة على الأرجح؛ فالشيعة في أفضل التقديرات لا يتعدى عددهم مئة ألف نسمة، في دولة تعد أكثر من 85 مليوناً، وفي وقت يعيش "الإسلام السني" فيه أزهى عصوره في البلاد. كانت الجماعة الوطنية المصرية تأمل من واضعي الدستور الاهتمام بقضايا ملحة أخرى؛ مثل تحديد سلطات الرئيس في مقابل سلطات "البرلمان"، ما يعني شكل النظام السياسي واختصاصات أقطابه، والإبقاء على "مجلس الشورى" أو إلغائه، والإبقاء على نسبة الـ 50% (عمال وفلاحين) التي يشترط توافرها في "البرلمان" المنتخب أو إلغائها، وحسم وضع الجيش في الإطار السياسي الجديد، والتعامل مع مطالب تحقيق العدالة الاجتماعية، عبر النص على التزام الدولة بتقديمات اجتماعية معينة، وشكل النظام الضريبي، والحدود القصوى والدنيا للدخل، وقضايا الحريات والإعلام وغيرها. لقد انصرف واضعو الدستور عن الأولويات الحقيقية التي قامت ثورة يناير من أجلها، وراحوا يخلقون استقطاباً حاداً حول أفكار تستهدف توسيع دور الدين كما يفهمونه في الدستور، وهو أمر يدخل البلاد في متاهات دستورية، ويحرف الأداء العام عن تحقيق المطالب التي نادت بها ثورة يناير، والتي لم تتضمن أبداً أي كلام عن توسيع الإطار الديني في الدولة والمجتمع، بالنظر إلى أن المشكلات التي قامت من أجلها الثورة كانت تتعلق بالفساد والاستبداد وسوء الإدارة واختلال توزيع الثروة وانتهاك كرامة الإنسان. * كاتب مصري
مقالات
مصر في متاهة دستورية
21-07-2012