من باب المصادفة وجدت على شبكة الإنترنت نسخة مصورة من رواية {فتاة تافهة} للروائية اللبنانية منى جبور، الروائية المنسية التي انتحرت اختناقاً بالغاز في 24 يناير 1964، تاركة وراءها روايتها الوحيدة الشهيرة وبعض القصص. حسناً فعل من نشر على المواقع الإلكترونية مجموعة دراسات عنها إلى جانب نسخة مصورة عن كتبها.

Ad

منى جبور التي انتحرت في الحادية والعشرين من عمرها، غاب منذ رحيلها الكلام عنها وعن روايتها {فتاة تافهة} التي كتبتها وهي بعد في الخامسة عشرة من عمرها. فباتت من الأسماء الروائية المنسية في الثقافة اللبنانية مثلها مثل الشاعر الفرنكوفوني فؤاد أبو زيد الذي قتل بشكل غامض عام 1958، وكثير من الروائيين والشعراء الذين تظلمهم الصفحات الثقافية أو العلاقات العامة، وأبرزهم رواد الثقافة اللبنانية من إلياس أبو شبكة إلى عمر فاخوري ورئيف خوري.

والظلم الذي لحق بمنى جبور لم يكن أدبياً فحسب بل أخلاقياًَ أيضاً، فهي المتحررة قبل الأوان جاء انتحارها ليزيد {الطين بلة}، وحاول المحيطون بها منع الآخرين من الاستقصاء عن أمور حياتها وخلفيات انتحارها، باعتبار أن ما فعلته يخرج عن المألوف وقواعد السلوك الاجتماعي ويجب حذفه من الذاكرة. من جهتهم، لم يحاول أهل الثقافة الاهتمام بقصص جبور وروايتها إلا في وقت متأخر، إذ كتبت عنها أكثر من دراسة في بداية العقد الماضي، أي بعد نحو 40 عاماً على انتحارها أو موتها الغامض. خصصت الدراسات لتبيان مكنونات روايتها {فتاة تافهة}، فيما لم يقترب أحد من واقعها الاجتماعي، ولم يتبرع لإعادة إصدار كتبها، ولم يلجأ من قدم دراسة عنها إلى إصدار دراسته في كتاب.

ضحية الأحلام

أظهرت الدراسات حول رواية {فتاة تافهة} مدى تلاقي منى جبور مع الروائية ليلى بعلبكي في رواية {أنا أحيا}، وهذه الأخيرة التي أصدرت بعض الروايات سرعان ما اعتزلت هواية الكتابة وسافرت إلى لندن، ولم تصدر طبعات جديدة من أعمالها إلا في وقت متأخر قبل نحو ثلاث سنوات، كأن الروائيتين كانتا ضحية الأحلام المجهضة، فهما كانتا سباقتين في ما يسمى {الأدب الجريء} الذي يعبّر عن مكنونات الجسد والحياة والوجود. كتبت بعلبكي في الستينيات ما لم يجرؤ أحد على كتابته حتى في التسعينيات، ولأنها امرأة تمت محاكمتها كمحاولة لمنع انتشار كتاباتها بحجة أنها مست بالأخلاق العامة. أما جبور فحاكمها المجتمع، وهي صاغت مواقفها نتاجاً أدبياً، مالت به، بحسب شخصية بطلة روايتها {ندى} صوب خصومة الرجل، سواء والدها: وإلا، من والدي، أداة تهديد. هل يجرني بشعري؟ هل يهجم عليّ ويرميني في الطريق؟ أو معلمها الذي يردد: {المرأة مخلوق ضعيف الشخصية والإرادة، المرأة مخلوق يخضع للرجل}.

رفضت ندى أن يُنظر إليها كعامل من عوامل الغواية، وأن تكون أداة زينة وتبرّج لإرضاء الرجل، أو أن تكون صنم جمال ولذة، (ص 6)، لذلك عابت على بنات جنسها اللواتي يُظهرن فقط مفاتن أجسادهن. تقول في رفيقة صفها: {أود خنقها. وكدت أخنقها بعيني، لا تفكر إلا في مفاتن جسدها. رفيقتي التي تخرج كل يوم مع زميل فهي رصينة وإنسانة لأنها تهيئ كنوز جسدها لعملية التعري والانتفاخ وبذر النسل. أما أنا فوقحة لأنني أرفض وأناقش}.

ولدت جبور في القبيات في لبنان في 20 سبتمبر سنة 1942، أبوها يوسف وأمها ليلى، ولها أخوان وثلاث أخوات. بدأت دراستها في القبيات، ثم في مدرسة الراهبات في طرابلس ثم في المدرسة النموذجية في فرن الشباك في بيروت. بدأت تنشر في {النهار} و}الرسالة} خواطر وجدانية وشعراً منثوراً. كانت متحفظة جداً في ما يتعلق بشؤونها الخاصة، لا سيما حياتها العاطفية.

من «فتاة تافهة»

واتكأت على الحائط أرقب الشارع وأحواض النبات الأخضر في المقهى، والباب الزجاجي المتحرك. وفتشت بين المارة عن خصلة شعر تائهة على جبين، وبين السيارات عن سيارة حمراء، وبين أفواه المارة عن فم فسخته الشهوة.

وانتقلت إلى داخل الأوتوماتيك وهبطت إلى الطابق السفلي. وبين المقاعد فتشت كذلك. وتهالكت على المقعد عند البركة الزرقاء وأخذت أبكي.

أين نبيل!

لكن هل يتزوجني نبيل؟ هل يهبني بيتاً يكون لي ويطرد الغربة من حياتي؟

كلا، مستحيل، فنبيل لا يزال طالباً في الجامعة.

وخرجت.

اتكأت على واجهة ثم عدت أمشي.

شعرت بالانحلال فوقعت ثم قمت ثم وقعت وقمت.

وارتميت في سيارة وضعتني أمام مدخل البيت. لكن لماذا أقصد هذا البيت ما دام ليس لي؟ لماذا أخرج المفتاح من محفظتي ما دامت الغرفة ليست لي؟

أغلقت الباب وارتميت على الأرض. الورق المبعثر يخنقني. يجب أن أهرب ولكن أين؟

اخرجت من الخزانة قميصاً قديماً طويته ودسسته تحت ثوبي...

بطني الآن منفوخ... أنا حبلى!!

تمشيت أمام المرآة: أنا حبلى: ليتني أستطيع تقبيل بطني المنفوخ!

يلزمني رجل أتعمشق بيده وأطرد الغربة.

وسقط القميص من تحت ثوبي. ورأيت بطني أمام المرآة ممسداً فارغاً فصعقت.

انشبت أظافري في بطني أمزقه، أمزق ثوبي، أشد لحمي إلى الخارج لينتفخ، لأصبح حبلى.

لم ينتفخ، ولم أشعر بحرارة تدفئ ثديي، فرجعت إلى الوراء والتصقت بالحائط وتأملت الورق المبعثر على الأرض والزجاج المحطّم والقميص القديم...

وارتميت على الدرج، وأخذت أسير.

أين أمضي؟

إنني أفتش عن رجل يطرد غربتي ويترك لي حرية تحطيم كدسة صحون في مطبخ يكون لي، في بيت يكون لي.

ورحت أسير، وأسير، وأسير، أبحث عن حرارة لثديي.

ولا أزال أسير دون أن أدري الى أين أمضي.