أنت السبب
محزنة ومخزية نتائج ما يدور في البلد، وأولى النتائج المخزية تلك هي ارتفاع وتيرة العنف ليست الجسدية فقط، ولكن اللفظية كذلك. أسمع الشباب والشابات، في سخطهم على أحداث ساحة الإرادة، يتراودون رغباتهم في تعليم المعتصمين درساً "ولو كنت مكان الشرطة كنت فتحت دماغهم"، وفي الطرف الآخر تسمع ذات النبرة وإن اختلفت الزاوية "أشوف واحد من الشرطة يقرب، أكسر إيده". وهكذا أصبحت لغتنا اليوم، هكذا وقف بعضنا يواجه بعضا.ولقد عاب علي الأقربون استنكاري للعنف البوليسي، والتفنيد هنا حساس، ولكن، بعد الذي كان، هل بقيت حساسيات تستحق المراعاة؟ أنا أستنكر العنف البوليسي لأنني أعتقد أن الحكومات المتعاقبة أسست له ورسخته في الوجدان. في كل المظاهرات الشعبية، تحدث في الغالب أعمال شغب، فالأعداد الضخمة للجماهير عادة ما تشمل الطيب والسيئ. هنا، ضبط النفس مطلوب على الجهة الأمنية وليس على الشعب، وهنا، وخصوصاً في دولة صغيرة بتعداد قليل مثل دولتنا وتعدادنا، يمكن للتعامل الأمني أن يكون أفضل وأهدأ وأن تكون السيطرة أسهل، ولكن، عندما تضرب الدولة الشباب في ديوان الحربش، وعندما تضربه في ساحات تيماء، وعندما تضربه في ساحة الإرادة، سيأتي متوقعاً الضرب، موغور الصدر، مستفِزاً ومستفَزاً، وبانتظار العلقة القادمة، وأحياناً محفزاً لها، لرد الصاع صاعين. وهكذا هي المعادلة، تضرب الدولة في مناسبة لا تستحق، فيفلت منها العيار في مناسبة تستحق، ولا نستطيع نحن، من نملك شيئاً من الإنسانية التي تمنعنا قبول أي صورة للعنف، أن نساندها لا هنا ولا هناك.
كم هو بائس الوضع لأن الحكومة والسلطة لا تعطياني الفرصة لأخالف المعارضة، فكل ذرة فيّ تنضح باختلافي معها واستنكاري لها: ما تنادي به، الكيفية التي تنادي بها، اللغة العنيفة، الحس القبلي والديني المتطرفان، فقدان الاتزان في الخطاب السياسي، امتطاء صهوة البطولة الثورية، النوايا والأهداف التي ستسحق الدولة المدنية، كل هذا وأكثر يتنافى وكل ذرة منطق وقبول في عقلي. ولكن أين الملجأ؟ ألم تسلم الحكومة مقاليد البطولة لهؤلاء الثوار الجدد؟ ألم تتغاضَ عن الفساد والخراب وتتوانَ عن التنمية والإنجاز حتى أعطت بدل الحجة ألفاً عليها؟ ألم تضرب حين لم يستوجب الضرب (ولا أجد نفسي قادرة على استيعاب وجوب الضرب أساساً)؟ ألم ترمِ بالدكتور عبيد الوسمي على الأرض؟ ألم تخرق في قلوب هؤلاء الشباب ألف خرق ليدخل منه مسلم ووليد، وهذا وذاك فيأخذوهم في هذا الطريق؟ ألم تهنهم فتشحنهم ليأتوا مستفزين كما كانوا؟ حانقين كما كانوا؟ إن قلت لي حرضهم النواب، قلت لك أنت فتحت الباب لهذا التحريض، وإن قلت لي بل هو شباب أرعن عنيف قلت لك بل أنت بدأت بالعنف وأسست له. أنت السبب دوماً، أنت السبب. سأموت قبل أن يأتي اليوم الذي أقول فيه حسناً فعلت أيها الأمن، عليك بالشعب، فإن قلناها نحن من ندعي العمل في المجال الإنساني، من ندعي الانتصار للحرية على مداها، فماذا بقي للآخرين؟ الصوت المناهض للعنف يجب أن يبقى مرفوعاً وصادحاً دوماً في المجتمع، حتى إن اعتقد من اعتقد أن العنف هنا دفاع مستوجب، فهذا الصوت يوازن الأشياء، ويذكر الأمن أن مهمتهم... حفظ الأمن.في أعماق قلبي أؤمن أن هناك دوماً حلاً آخر، أعتقد أنه بالحصافة، والتي هي مطلوبة في الواقع من الأمن والحكومة والسلطة، يمكن تفادي العنف الذي يجب أن يأتي كآخر الإجراءات، إن أتى مطلقاً. وفي الكويت تحديداً، أعتقد أن قوات الأمن والحكومة هما المجبران اليوم على التفكير الحصيف بل التنازل، وليتهما لم يضطرانا لنقلها لهم، لكن تعسفهما السابق، وسياساتهما السابقة، وتماديهما السابق، وتحالفاتهما السابقة، كل ذلك يضع على ظهورهما اليوم عبء التنازل، وذلك بأن يجدا طريقة أخرى للحل، غير العنف، غير الصدام، مثلما صنعتم هذه المشكلة حلوها. عندما كنت صغيرة، كنت أعتقد فقط بالأبيض والأسود، ثم علمتني الدنيا أن أغلب مساحاتها رمادية مقيتة، كم أكره هذه المنطقة الوسط، وكم أكره عجزي عن اختيار أبيض واضح، وكم أحنق على من أجبرني على هذا التنازل. أتوق إلى وقفة بيضاء، أقفها وأنا ناصعة الرضا دون هذه الشدة النفسية التي تسهرني على مقال لن يسمعني سوى المزيد من العنف... و"اللي يحب النبي يضرب".