تبني إيزابيل ابرهاردت قصصها على ثنائيات متناقضة متعددة، كالتقاء حضارتين، الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية، المستعمِر والمستعمَر، العامل ورب العمل، البؤس والسعادة، وغيرها من ثنائيات. وعلى سبيل المثال تتناول «ياسمينة» قصة حب تعالج التقاء الغرب في شخص الضابط جاك بالشرق الممثَّل في شخصية ياسمينة، وفي الوقت نفسه هو التقاء واختلاف المستعمَر والمستعِمر في نمط الحياة والتفكير، وهو الصراع القائم بينهما.

Ad

والسحر ليس في قصص المؤلفة فحسب بل في سيرة حياتها التي يكتبها المترجم، وكانت بمثابة عمل بانورامي لامرأة أثارت اهتمام الباحثين والكتاب. فهي من مواليد عام 1877 في جنيف وتوفيت عام 1904 في الجزائر، اشتهرت بترحالها بين فرنسا وروسيا والجزائر. فقد أخذت إيزابيل منذ سنوات شبابها الأولى مسافة عن الأوروبيين وعن الحضارة الأوروبية وقررت العيش كـ «مسلمة» بل وتنكّرت بزيّ رجل بدوي. ولم تكتفِ باتخاذ مواقف مؤيدة للمسلمين الذين أقامت بينهم في جنوب الجزائر ضد السلطات الاستعمارية، لكنها «التحقت بهم أيضاً في التزامهم الروحاني». وكانت قد حرصت على أن تبقى وفية له باستمرار على قاعدة المبادئ التي تؤمن بها. لقد عاشت له ولتجربتها الروحانية، وولعت بحياة الزهد والتصوف ودور الزوايا الدينية كالرحمانية ببوسعادة وشخصيات كلالة زينب التي اشتهرت بالزاوية البوزيانية وأقامت في الجزائر العاصمة.

في 29 يناير 1901 نصب أبو أحمد، رئيس الطريقة التيجانية التي تعادي الطريقة القادرية، كميناً لمجموعة من الخيالة كانت إيزابيل ضمنها فجرحت جرحاً بليغاً، لكنها نجت من الموت بعد جراحة ناجحة. فوجئ حاكم المحكمة العسكرية الذي كان يتوقع أن يرى أمامه فتاة أوروبية تتهم الجاني بشتى النعوت والتهم، وإذا بها تدافع بحماسة عن الجاني المتطرف وعن الإسلام. قطعاً لم يرض ذلك الحاكم الفرنسي الذي حكم على المتهم بالأشغال الشاقة المؤبدة، وإبعاد إيزابيل عن الجزائر.  في مرسيليا، فكرت إيزابيل بالعودة ثانية إلى الجزائر، ولم يكن أمامها من سبيل إلى ذلك إلا الزواج من فرنسي فتزوجت في عام 1901 حيث وجدت ضالتها في سليمان اهني الجزائري المسلم الذي يحمل الجنسية الفرنسية. وبذلك عادت إلى الصحراء الجزائرية التي أخذت تنطلق فيها خبباً على ظهر جوادها. عن زواجها كتبت سيمون دو بوفوار: «عندما تزوجت إيزابيل التي انطلقت إلى الصحراء بزي الرجال على ظهر جوادها، لم تشعر بعدم الاحترام تجاه ذاتها. من الصعب القول لماذا اختارت إيزابيل هذا الزي. قد يكون أن ذلك قد راق لها او اعتمدته للدفاع عن نفسها. الزي الرجالي قياساً إلى الزي النسائي شيء مصطنع، لكنه قياساً الى الزي النسائي أكثر راحة. جورج صاند مثلاً، كانت مثل إيزابيل ترتدي ملابس الرجال».

في 21 أكتوبر 1904 وكان يوماً ماطراً، ماتت إيزابيل بعدما سقط عليها سقف المنزل الذي لجأت إليه اتقاء من المطر في قرية عين صفرة التي تقع وسط منطقة صحراوية قاحلة في الجزائر.

«الغريمة»

في أحد الصباحات، توقفت الأمطار المشجية فجأة وأطلت الشمس في سماء صافية صراح، ذات زرقة بالغة، وقد اغتسلت من أبخرة الشتاء الباهتة.

في الحديقة المنزوية كانت شجرة الأرجوان الكبيرة تمد أذرعها الموسوقة بالأزهار الوردية الصينية. إلى اليمين يمتد الانعطاف البادخ لروابي مصطفى وينأى في شفافية لامتناهية.

كانت هناك شذرات ذهبية على الواجهات البيضاء للفيلات. هناك بعيدا تنبسط أجنحة الزوارق النابوليثانية الشاحبة على موج الخليج الهادئ.

تمر نسمات مفعمة بالرقة في الهواء الدافئ. تقشعر الأشياء فجأة فتستفيق في قلب المتشرد أوهام الانتظار، والاستقرار والسعادة.

ينعزل مع تلك التي أحبها قلبه في المنزل الصغير أين تمر الساعات بلا إحساس وفي وهن سائغ، وراء المشربية ذات الخشب المنحوت، وراء الستائر ذاوية الألوان. في الجهة المقابلة كان الديكور الكبير للجزائر وهو يدعوهما إلى احتضار لذيذ.

لماذا الرحيل، لماذا البحث عن السعادة في مكان آخر، و المتشرد يعثر عليها هنا لا حد لها في ثـمر البرقوق المتغير للحبيبة أين يغوص بنظراته طويلاً، طويلاً إلى أن تسحق كآبة الشهوة القصوى روحيهما؟ لماذا البحث عن فضاء حين تنفتح خلوتهما الضيقة على الآفاق الفسيحة، حين يحسا أن الكون فيهما يختزل؟

كان كل شيء عدا حبه يبتعد... يرتد إلى موجات تنأى. يتخلى عن حلمه الداعي للفخر بالوحدة، يتنكر لديار الصدف والمخاطرة والطريق الصديقة، تلك الخليلة المستبدة، المنتشية بالشمس تلك التي طالما أخذها وأحبها.

استسلم المتشرد بقلب مضطرم ساعات وأياماً لهدهدة إيقاعات النشوة التي كانت تخيل إليه أزلية. كانت الحياة والأشياء تبدو في مخيلته جميلة، فكر أيضا أن وضعه الآن قد صار أحسن و قد غدا أكثر رقة في قوة سلامة جسمه المنكسر، وطاقة إرادته الذاوية.

... في الماضي، أيام المنفى وفي خضم السأم الساحق للمعيشة الحضرية في المدينة، كان قلب المتشرد يعتصر وجدا لذكريات فتنة المشهد الساحر للشمس على السهل الطليق.

والآن، وهو يفترش سريراً دافئا في شعاع من أشعة الشمس الذي يتسلل من النافذة المشرعة، يمكنه أن يستحضر وبصوت خافت جداً، في أذن الحبيبة رؤى وطن الأحلام، ممزوجة فقط بالكآبة المبهمة الرقيقة وكأنها عطر الأشياء الميتة.

لم يعد المتشرد يأسف على أي شيء. إنه لا يرغب إلا في تلك اللحظات السرمدية للذي كان.

أسدل الليل الدافئ ستائره على الحدائق. صمت يخيم، وتنهدة عميقة تتصاعد، تنهدة البحر الذي ينام هناك في المنخفض السحيق تحت النجوم. تنهدة الأرض المفعمة بحرارة الحب.

نيران تتوهج كاللآلئ على قمم الروابي الغضة. أخرى تناثرت على الساحل كأنها حبات مسبحة ذهبية، وأخرى تشتعل كأنها عيون حائرة في مخمل ظل الأشجار الباسقة .

خرج المتشرد وحبيبته إلى الطريق المقفرة إلا منهما، وقد اشتبكت أيديهما وراحا يبتسمان في الليل.

لم يتكلما، ففي الصمت يتفاهمان أكثر.

وصعدا المنحدر الساحلي ببطء، بينما كان القمر ينبعث من بين أشجار الأوكاليبتوس على أولى تضاريس متيجة المنخفضة.

وجلسا على صخرة. (...)